رئيس التحرير أحمد متولي
 راح برقوق وجا الناصري.. هكذا سخر المصريون من حكامهم بعد الغلاء

راح برقوق وجا الناصري.. هكذا سخر المصريون من حكامهم بعد الغلاء

على مر العصور كانت السخرية هي السلاح الذي يتميز به المصريون في مواجهة أزماتهم الاقتصادية، فبينما كان يصدر الحكام قراراتهم بزيادة الضرائب أو رفع الأسعار كان الشعب يقابل ذلك بإطلاق النكات والأمثال وأبيات الشعر. الدكتور عمرو منير رصد في كتابه «ثورات مصر الشعبية» كيف تعامل المصريون مع أزماتهم الاقتصادية في هذا السياق.

العصر العثماني

رغم ما عانته مصر في العصر العثماني من سواد حالك، إلا أن ذلك لم يمنع المصريين من التعبير عن سخطهم ضد الحاكم المستبد بل والتحريض ضده بسخرية لاذعة، ففي سنة 1137هـ خرج الناس في تظاهرات احتجاجاً على زيادة الضرائب وكان شعارهم:

يا باشا يا باشا يا عين القملة    مين قالك تعمل دي العملة

باشا يا باشا يا عين الصيرة   من قالك تدبر دي التدبيرة

شعار آخر اتخذه الشعب في موقف مماثل عندما حاول عثمان بك البرديسي بعد جلاء الحملة الفرنسية زيادة الضرائب على التجار وأرباب الحرف، فثارت القاهرة وردد العوام:

إيش تاخد من تفليسي يا برديسي.

وردد المصريون شعاراً آخر عكس مدى كراهيتهم للحكم العثماني الذي مارس عليهم الجباية في أبشع صورها: «يا رب يا متجلي  اهلك العثملى»

 

وكان سوء الأحوال الاقتصادية سبباً فى إطلاق المصريين أسماءً تهكمية لاذعة على الأمراء والحكام مثل «بارم ديله» و«المنفوخ» و«أبو مناخير فض» و«جلب القرد» و«صنجق سته» و«قفا الثور» و«السبع بنات».

المماليك والأسماء التهكمية

ولعل الروح المصرية الساخرة لم تتسع في عصر كما اتسعت في عصر المماليك، فلم يترك الناس حاكماً ظالماً سرق أقواتهم وضيّق عليهم في معيشتهم إلا وقد نبزوا كلا منهم بلقب ميزوه به، مثل السلطان «قُلة» أو السلطان «بلياي المجنون»، والسلطان «بخشي»، و«سلطان ليلة»، و«سلطان الجزيرة»، و«السلطان أبو عيشة»، وهذه الألقاب والكُنى تشير في سخرية إلى سلوكهم أو إلى كونهم ألعوبة في يد الأمراء، أو أنهم لم يلبثوا في السلطة غير ليلة واحدة، أو تسلطن في الجزيرة لا العاصمة إثر انقلاب دموي، لن تلبث أن ترتد سهامه إليه.

وأطلق المصريون على النواب والولاة والأمراء والصناجق من قبيل السخرية ألقاباً ساخرة وكنايات هازلة مثل «الأمير سم الموت»، و«الأمير فأر السقوف»، و«الأمير طليله»، و«الأمير فرعون»، و«الأمير الفول المقشر»، و«الأمير برسباي حداية»، و«الأمير سلام عليكم»، و«الأمير حلاوة»، و«الأمير المجنون» و«الأمير القرد»، و«أمير سوق السلاح»، و«روح له باشا»، و«الأمير خاين بك»، و«الأمير الصنجق أبو نبوت»، و«الصنجق هات لبن»، و«الصنجق غليظ الرقبة».

فرض الضرائب

وفي سنة 782هـ اتفق الأميران ابن برقوق وبركة ضد سائر الأمراء المماليك، حتى أصبحا معاً صاحبي الأمر والنهي في الدولة واستبدا بالأمر فيها، وأسرفا في فرض الضرائب، فصور العوام ذلك الاتفاق وأثره تصويراً ساخراً في مقولة:

«برقوق وبركة نصبا على الدنيا شبكة»

وظل العوام يرددون ذلك، فيما يشبه شعار المظاهرات، إلى أن حدثت فتنة بين المماليك وعلى أثرها هرب برقوق ورجاله وعزل بركة من منصبه، وانفرد الأمير يلبغا الناصري وجماعته بالأمراء في البلاد، وعاث في الأرض الفساد ولم يتجاسر أحد على منعهم، فقال العامة في أسى:

«راح برقوق وغزلانه،  وجا الناصري وتيرانه»

وقد ساعدت هذه السخرية على تحريض أحد الأمراء، وهو الأمير منطاش على التمرد سنة 791هـ على الناصري والانشقاق عنه اعتماداً على قوة الشعب الذي أيده فانتصر على الناصري ومماليكه.

من شعارات العامة التي تدين الواقع الاقتصادي الذي وصلت إليه مصر في العصر المملوكي قولهم:

«السلطان من عكسه أبطل نصفه..  وإذا كان نصفك إينالي لا تقف على دكاني»

وقصد الناس من هذه المقولة السلطان إينال الذي شاع في عهده عادة تغيير العملة وغشها نتيجة التضخم الاقتصادي، وراج عمل الزغلية (غشاشي العملة) في أيامه، وانطلقت المظاهرات والألسنة في حق السلطان، وقاضي القضاة، والقضاة الأربعة والأمراء والأعيان حتى استجابوا لضمير الشعب، وتم إبطال العملات المغشوشة.

وردد المصريون أبيات شعر نظمها ابن إياس شمتاً في الغوري حين شاع نبأ مرض أصابه في عينه، فأذاع العامة أنه قد عمى، وغارت عينه بسبب ظلمه، فيقول:

سلطاننا الغوري غارت عينه ..  لما اشترى ظلم العباد بدينه

لا زال ينظرر أخذ أرزاق الورى ..  حتى أصيب بآفة في عينه

وفي صفحات التاريخ أغنية شعبية تغنى بها العامة في عصر السلطان بيبرس الجاشنكير، وكانوا يكرهونه كما كانوا يكرهون نائباً له نبزوه بلقب «دقين» تندراً عليه لأنه كان أجرد، وانتهزت العامة فرصة غياب النيل عن موعده، وغنت في المتنزهات:

سلطاننا رُكين.. ونائبو دقين.. يجينا الماء من أين؟.. هاتوا لنا الأعرج.. يجي الماء يدحرج

حمص أخضر وتمثال حلوى

كان سوء الأحوال الاقتصادية سبباً في تندر المصريين على الأمراء المماليك مثل طشتمر، حيث كانت العامة تنبزه باسم «حمص أخضر»، لأنه كان يوزع الفول والحمص الأخضر على الحرافيش، وفقراء الصوفية، في محاولة منه لاجتذابهم إلى جانبه، حتى تقوى بهم شوكته، تمهيداً لتحقيق مطامعه على حساب الشعب، فاستغل الناس هذا النبز وتندروا عليه كثيراً بعد أن رجع من حلب لتولي نيابة مصر، وبدأت مظالمه تروى:

لما رجعت إلينا/ من بعد ذا البعد والبين/ خلناك تحنو علينا/ يا حمص أخضر بقلبين

أما الظاهر بلباي الذى تولى السلطة عام 872هـ، فكان يعرفه العامة بـ«المجنون»، وكان سمجاً، وملبسه سيء، فجمع بين قبح الفعل والشكل وسوء الطباع ومقت اللسان، حتى نظم العامة عنه هذه الأبيات:

وفظ غليظ الطبع لا ود عنده  ..  وليس لديه للأخلاء تأنيس

تواضعه كبر وتقريبه جفا   ..   وترحيبه مقت وبشراه تعبيس

وعندما قبض على الأمير قوصون وسجن بالإسكندرية، فرحت العامة وترجمت طائفة الحلوانية في مصر هذا الفرح الشعبي بعمل تمثال من الحلوى على شكل الأمير قوصون وهو مشنوق على هيئة ساخرة، كما يفعل رسامو الكاريكاتير اليوم، فأبدعوا التعبير عن مشاعر الناس وأحاسيسهم الشعبية أو الجمعية إزاء المماليك وظلمهم، وأقبل أهل مصر جميعاًعلى شراء هذا التمثال لتحطيمه والتهامه وهم يضحكون ويتشفون، بعد ان اتخذوا منه مادة للتهكم والسخرية من نهاية الظالمين.

وامتدت سخرية المصريين إلى الفاطميين وطريقة إدارتهم للدولة، وما كان من توظيفهم لليهود في أعمال الدولة ودواوينها، ما سهل الاستيلاء على المال العام وخلق أزمات اقتصادية، فقالوا:

يهود هذا الزمان قد بلغوا .. غاية آمالهم وقد ملكوا

العز فيهم والمال عندهم ..  ومنهم المستشار والملك

وظل المصريون يعنفون الفاطميين بمثل هذه القطعة الشعرية حتى أبعدوا اليهود عن أعمال الدولة ودواوينها.

وعندما ازداد نفوذ المماليك في عصر الملك الصالح نجم الدين أيوب واعتدوا على ممتلكات العامة وسرقوا الأقوات وتوجس الشعب منهم خيفة لم يجد الناس متنفساً لهم سوى التعبير عن هذا السخط بأبيات من الشعر:

الصالح المرتضى أيوب أكثر من  ..  ترك بدولته يا شر مجلوب

لا أخذ الله أيوباً بفعلته ..  فالناس أصبحوا في شر أيوب

وعندما بلغ مسمع الملك الصالح هذه الأبيات أدرك ما فيها، وقام ببناء قلعة الروضة لهؤلاء المماليك حتى يكف آذاهم عن الرعية.

العصر الأيوبي

وفي العصر الأيوبي اتخذ العامة من الأمثال الشعبية متنفساً لهم، فعبروا عن الوضع الاقتصادي وعدم استفادتهم من كدهم وعملهم وإنتاجهم بالأمثال الشعبية مثل: «الإبرة تكسو الناس وهي عريانة»، و«أنا أزرع الشجرة وغيري يأكل الثمرة».

ولم يسلم صلاح الدين الأيوبي نفسه من السخرية والتهكم بسبب سوء الأحوال الاقتصادية فكان يسمع من المتظلمين والمستغيثين أغلظ ما يمكن أن يسمع، فقال عنه الشاعر أبو عنين:

سلطاننا أعرج وقاضيه    ذو عمش والوزير منحدب

وكان صلاح الدين به بعض عرج، والقاضي صدر الدين بن درباس به بعض عمش، والوزير الفاضل منحدب (مقوس).

وتزخر الأمثال الشعبية التي أبدعها المصريون عبر تاريخهم للتعبير عن سخطهم على الأحوال الاقتصادية والنقمة على الفقر المدقع بقوله «مال السلطان يطلع من بين الضفر واللحم» و«اللي يدوق مرقة السلطان ينحرق شفته» ومن خلال أمثاله عبر عن واقع ظروفه المعيشية بقوله «زي قواديس الساقية مشنوق من رقبت ورجليه». و«ان حضر العيش يبقى المشي شبرقة».

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية