رئيس التحرير أحمد متولي
 استسلامك أفضل من صمودك أحيانا.. لماذا؟

استسلامك أفضل من صمودك أحيانا.. لماذا؟

هذا شخص يواجه ضغوطا وأعباء لا يمكن لأحد غيره أن يتحملها، وهذا آخر يستطيع التكيف مع أي ظروف سيئة يمر بها، سواء على مستوى العمل أو الأصدقاء أو الأسرة أو غيره. 

ما ذكرناه من سمات الأشخاص الناجحين الذين يتحدون أية عوائق ويسعون في ثبات نحو هدفهم ولا يوقفهم شئ أو يحطمهم ظرف سيء. لكن هل كل الأمور تسير هكذا فعلا؟

ما هي المرونة؟

المرونة هي القدرة النفسية على التكيف مع الظروف المُجِهدة والأحداث السلبية، وهي سمة شخصية تفيد في أماكن العمل، فالقدرة على التكيف مع المتغيرات في بيئة العمل سمة مطلوبة في الشخص الناجح. آدم جرانت وشيريل ساندبرج، من جامعة ميتشيجان، يقولان إن القدرة على الصمود - المرونة - هي نوع من العضلات التي تنكمش في الأوقات الجيدة وتنفرد وتتوسع في الأوقات السيئة.

وبهذا المعنى، فإن أفضل طريقة لتطوير القدرة على الصمود، من خلال الصعوبات التي يواجهها الإنسان والضائقات التي يمر بها، والتي أشار إليها فلاسفة مختلفون عبر السنوات. حيث يقول الفيلسوف الروماني «سينيكا» إن الصعوبات تقوي العقل، أو كما قال «نيتشه»: «مالا يقتلك يجعلك أقوى»، وعلى نفس المنوال يتخذ الجيش البريطاني من مقولة «الألم هو ضعف غادر الجسد» شعارا له وكجزء من برنامج التدريب الخاص به.

لكن هل يمكن أن تُعتبر القدرة الدائمة على الصمود أمرا سيئا؟ 

نعم. فمثل نمو العضلات الزائد عن الحد والتي قد تضغط على القلب أو أي عضو مهم بجسد الإنسان، تشير دراسات علمية واسعة النطاق إلى أن القدرة التكيفية تصبح غير مفيدة إذا زادت عن الحد. ويؤكد بحث أجراه روب كايزر، المؤلف ورائد الأعمال، أن نقاط القوة المفرطة تتحول إلى نقاط ضعف.

فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي القدرة الشديدة على الصمود والتكيف، إلى دفع الناس إلى الإصرار على أهداف لا يمكن تحقيقها، وعلى الرغم من أننا نميل إلى تشجيع ومباركة الأشخاص الذين يمتلكون طموحات وأهداف عالية، إلا أن الموضوعية تقتضي أن يسعى هؤلاء إلى تحقيق واحدِِ من هذه الأهداف أو بعضها والتخلي عن الباقي.

وأثبتت الأبحاث النفسية، أن معظم الناس يضيعون قدرا هائلا من الوقت، في الإصرار على تحقيق أهداف غير واقعية، وهي ظاهرة تسمى بـ«متلازمة الأمل الكاذب»، فعندما تبرز سلوكيات تشير بوضوح إلى أنه من غير المرجح بلوغ تلك الأهداف، فإن الإفراط في الثقة والتفاؤل يعد أمرا غير مجدِِ، ويمكن أن يؤدي إلى إضاعة الكثير من الجهد على مهام لا طائل منها.

وعلى نفس المنوال، فإن قدرا كبيرا من المرونة يمكن أن يجعل الناس أكثر تسامحا مع صعوبات لا يجب تجاهلها، سواء في العمل أو العلاقات وغيرها، وهو ما من شأنه أن يؤصل من الملل وإضعاف المعنويات، خاصة فيما يتعلق بتحمل الرؤساء السيئيين  لفترة أطول من اللازم. 

ففي أمريكا على سبيل المثال، 75٪ من الموظفين يعتبرون مديرهم المباشر هو أسوأ جزء في عملهم، ويعتقد 65% منهم أنهم كانوا سيتلقون إضافات وعلاوات إذا كان رئيسهم شخصا آخر غير الموجود حاليا، ومع ذلك فإن ما يدفع البعض لتحمل هذا الوضع هو رغبتهم في وظائف مستقرة وفرص عمل جيدة، لكن مع التطورات الهائلة التي أدخلتها التكنولوجيا الرقمية، أصبح من السهل على الأشخاص تكوين علاقات جديدة وبدء عالم جديد.

فإذا كانوا أقل قدرة على التكيف والصمود ربما تغير حالهم للأفضل وتحسنت فرصهم في تشكيل علاقات عمل جديدة، ولكن مع ذلك تشير الأبحاث إلى أن المعظم يفضل الاحتفاظ بوظيفة سيئة ورئيس سيء على خوض مغامرة جديدة.

بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي المرونة الزائدة إلى فقدان الفاعلية القيادية، ففي دراسة حديثة لـأدريان فرنهام وزملاؤه، بجامعة أوكسفورد، أشارت إلى أن القدرة على التكيف مع البيئة المجهدة ومكان العمل القاسي وحتى العلاقات الاجتماعية تجعل الناس أشبه بالشخصية الكرتونية الخارقة التي تنفد عبر جدار من «الخوف والكبت العاطفي وفرط البرجماتية» والتي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى الأذى النفسي وزيادة درجات العداونية لديهم، وهي صفات لا يجب أن تتوفر في الشخصية القيادية وحتى الشخصية غير القيادية.

وإضافة إلى ذلك يمكن أن تؤدي إلى إنتاج أشخاص متقلبين مزاجيا وخائفين من الرفض دائما (قول لا) وبالتالي يبتعدون عن المجموعات ويضعون حائلا بينهم وبين الآخرين خوفا من الانتقاد.

وعلى الرغم من أن الأشخاص مرتفعي المرونة، ينظر إليهم على أنهم الأفضل، فإن هناك جانب مظلم آخر خفي لذلك، فهم مع الوقت يفقدون القدرة على فهم ذواتهم ودوافعهم الحقيقية، وهي الصفات التي تساهم في تطوير الإمكانيات الوظيفية والمواهب القيادية لديهم، فتشير دراسات أخرى إلى أن الأشخاص الذين لا يدركون دوافعهم أو قيودهم الداخلية، يقللون من قدراتهم القيادية مما يؤدي إلى عدم قدرتهم على تطوير نهج التعامل مع الآخرين بما يتلاءم مع السياق الذي هم فيه. 

فهم، في الواقع، يتسمون بقدر من المرونة لا يسمح لهم بتلقي المعلومات التي قد تكون ضرورية في إصلاح - أو على الأقل تحسين - نقاط ضعفهم السلوكية. باختصار، فإن المرونة تساهم في الإقلال من تعزيز وتقدير الذات وبالتالي تؤدي إلى الإنكار في النهاية.

وغير ذلك، فإنهم حتى لو تمت ترقيتهم بسبب مرونتهم فإنهم يفتقدون في الأساس للصفات والمواهب القيادية.

كيف؟

لشرح هذه الظاهرة، يقول عالم الاجتماع بجامعة ميشيجان ديفيد سلون ويلسون إنه في أي مجموعة من الناس - سواء كان فريق عمل أو مرشحين للرئاسة أو غيرهم - فإن الشخص الذي يفوز هو عموما مرن جدا ويلقبونه بالشجاع. لكن هناك أمر أكثر أهمية، من السياسة الداخلية والتنافس بين الأشخاص في العمل، يحدث في الشؤون الإنسانية، ما هو؟

المنافسة داخل المجموعة ذاتها أقل أهمية من المنافسة بين المجموعات وبعضها البعض، مثل التنافس بين أبل ومايكروسوفت، أو بين كوكاكولا وبيبسي، وكذلك من الناحية التطورية، كانت منافسة أسلافنا قبل 10الآف عام مع المجموعات الأخرى (الحيوانات على سبيل المثال)، أكثر أهمية من منافسة أسلافنا لبعضهم البعض.

وكما أشار روبرت هوجان، العالم النفسي، فإنه من أجل نجاح المجموعة يجب أن يكون الأفراد قادرين على التعايش مع بعضهم البعض داخل مجموعتهم الخاصة؛ من أجل تشكيل فريق كفؤ. وهو ما يتطلب دائما «قيادة» فعالة، وعندما يتعلق الأمر باختيار القائد فإن الأفراد الأكثر قدرة على الصمود النفسي (المرونة) لديهم مجموعة من الخصائص التي تقترب كثيرا من الدهاء السياسي وأسلوب القيادة الاستبدادي، أكثر من تلك التي تحتاج إلى التأثير على الفريق للعمل بما يجعله متوائم لتركيز اهتمامه على المنافسين المتفوقين فقط. 

وبعبارة أخرى، فإن اختيار قادة مرنين ليس كافيا. ويجب أن يكون لديهم أيضا صفات النزاهة والرعاية والسعي لرفاهية فريقهم من أجل نجاحهم الشخصي.

في النهاية، ليس هناك شك في أن المرونة والقدرة على الصمود سمتين مهمتين للغاية خاصة في مواجهة الأحداث المؤلمة. ومع ذلك، فإنها قد تجعل الأفراد يركزون على أهداف مستحيلة أو التسامح مع أوضاع مهينة، دون داع، وهو ما يذكرنا برواية «كنديد» لفولتير، والتي تكشف العواقب السخيفة للتفاؤل الشديد، والتي جاء فيها «أردت أن أقتل نفسي مائة مرة، لكني ما زلت أحب الحياة. هذا الضعف المثير للسخرية ربما يكون واحدا من أكثر نزعاتنا حزنا وغباء، فلا يوجد ما هو أكثر غباء من الاستمرار في تحمل العبء الذي من شأنه أن يلقي بالسرور بعيدا».

كما يجب ألا ننسى أن البكتيريا المقاومة والصامدة والتي تتكيف دائما، هي التي تقتلنا.

المصدر

محمد ربيع

محمد ربيع

صحفي مصري مهتم بالأوضاع الاجتماعية والإنسانية