رئيس التحرير أحمد متولي
 علي يوسف.. صحفي فسخت المحكمة عقد زواجه بسبب «أحقر المهن»

علي يوسف.. صحفي فسخت المحكمة عقد زواجه بسبب «أحقر المهن»

لم يكن زواج الشيخ علي يوسف من صفية السادات في بداية القرن العشرين مجرد زيجة عادية، لكنها حركت مياهاً كثيرة راكدة، واصطدمت بمعتقدات الناس في ذلك الوقت عن «الحسب والنسب»، وانتهى الأمر بفسخ عقد الزواج لأن الزوج من أصل فقير ويعمل بالصحافة. القصة كاملة رواها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه «أيام لها تاريخ».

من الصعيد إلى الصحافة

ترك علي يوسف قريته النائية في الصعيد «بلصفورة» فقيراً، وجاء من سوهاج إلى القاهرة على ظهر مركب في النيل، ليتلقى العلم لعله يصبح فقيهاً أو معلماً، وإن فشل يتكسب الرزق بقراءة القرآن على المقابر، إلا أن آمال الفتى الفقير الزري الهيئة (النحيف) كانت أعظم جداً مما يظن الناس.

لم يلبث أن توقف عن مواصلة الدراسة في الأزهر واهتم بالمسائل العامة، فجرّب قلمه في رسائل بعثها إلى الصحف، ثم أغرته الصحافة فدخل ميدانها وعمل في مجلة «القاهرة الحرة»، ثم أصدر مجلة «الآداب».

لم تمض سنوات حتى أنشأ أكبر جريدة يومية في مصر هي «المؤيد». كتب فيها الطليعة في ذلك الوقت من أمثال قاسم أمين، وسعد زغلول، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى كامل الطالب في كلية الحقوق قبل أن يتخرج ويصدر جريدته «اللواء».

وكما كان «يوسف» أول مصري صميم يملك جريدة يومية كبرى، كذلك كان أول صحفي يصل بقلمه إلى مركز أدبي رفيع في الدولة. فتوثقت صلاته بأكبر الشخصيات المصرية المعاصرة، واتصلت أسبابه بعد ذلك بالخديوي عباس حلمي الثاني، ثم بالخليفة التركي في القسطنطينية، وازدان صدره بأرفع أوسمة الدولة ونياشينها، وأصبح رجلاً مرموقاً مرغوباً، إلى جانب كونه صاحب قلم جبار يغرس كل صباح في صدور الإنجليز.

 

الزواج الثاني

وكان علي يوسف قد تزوج زيجة متواضعة تناسب شبابه المجاهد الفقير، فلما وصل إلى هذا المركز الكبير، والثراء العريض أيضاً، فكر أن يتزوج مرة ثانية زوجة ترضي مكانته الممتازة، وتكون جميلة وثرية ومن بيت «حسب ونسب».

هداه البحث إلى بيت «السادات»، فهو بيت ثراء وعراقة من وقت بعيد، وهم أشراف من سلالة الحسين وأحفاد النبي (ص) . وكان قد أتيح له أن يرى في بعض المناسبات «صفية» صغرى بنات السيد السادات، وأن يعرف عنها أنها نالت قسطاً من الثقافة.

تقدم الشيخ يخطب «صفية» التي كانت بيضاء اللون، جميلة الوجه، بدينة جداً، على طراز الجمال الذي كان مفضلاً عند الشرقيين في ذلك الزمان، ولم يرض السيد السادات بسهولة إلا بعد أن توسط لـ«العريس» الوسطاء من الوزراء والأمراء والكبار.

تمت الخطبة، وقدم الشيخ علي يوسف المهر والشبكة وكانوا يسمونها «النيشان». ومرت سنة وسنتان وأربع سنوات و«يوسف» لا يكف عن سؤال الأب: متى يُزف إلى عروسه؟

ماطل «السادات» وسوّف وخلق العراقيل، حتى ضاق «يوسف» بالأمر، ورأى أن الوضع أصبح مهيناً لكرامته، كما ضاقت العروس مثله.

خطة الزواج

قرر الشيخ في نفسه أمراً. وانطلق الرسل بينه وخطيبته وبعض أهلها من الذين كانوا يؤيدونه. وفي يوم معلوم خرجت «صفية» من بيت أبيها مع بعض أهلها في زيارة بريئة لبيت السيد البكري الذي كان من أقارب أسرة السادات.

وفي بيت «البكري» كان القسم الثاني من الخطة الموضوعة. كان الشيخ جالساً ومعه المأذون، وجاءت العروس وعُقد القران، واحتفل الحاضرون احتفالاً سريعاً بالزفاف، وخرجت العروس مع عريسها تشيعها الزغاريد إلى بيت الزوجية في حي الظاهر.

ثورة الأب

في اليوم التالي استيقظ «السادات» ليقرأ في جريدة «المقطم» نبأ زفاف ابنته إلى علي يوسف، ففقد عقله وجن جنونه. قدم بلاغاً إلى النيابة يتهم فيها «يوسف» بأنه غرر بابنته.

بحثت النيابة في الموضوع فوجدت أن السيدة صفية بلغت الرشد ومن حقها شرعاً أن تزوج نفسها، وقد حضر القران عدد كبير من أقارب العروس، فليست هناك أية شبهة يمكن أن يستنتج منها أن «يوسف» غرر بها. وحفظت النيابة البلاغ.

لم يسكت «السادات» على هذا القرار، فرفع دعوى أمام المحكمة الشرعية يطالب فيها الحكم بإبطال الزواج استناداً إلى أن الشريعة تشترط لصحة الزواج وجود تكافؤ بين الزوجين في الإسلام والنسب والمال والحرفة.

قال «السادات» إنه يطعن في كفاءة علي يوسف لابنته من ناحيتين: النسب والحرفة، فالشيخ علي يويف لا ينتسب إلى نسب رفيع كالسادات، كما أنه يحترف «مهنة الجرايد» التي هي – كما قال في صحيفة دعواه- «أحقر الحرف.. وعار وشنار عليه».

أحيلت القضية إلى محكمة قاضيها اسمه الشيخ أبو خطوة، وتحدد لنظرها جلسة 25 يوليو سنة 1904.

انقسام الرأي العام

في هذه الأثناء انقسم الرأي العام إلى معسكرين متخاصمين. فريق يدافع عن الشيخ علي يوسف وأغلبه من المثقفين والمستنيرين الذين رأوا أن ما صنعه لا غبار عليه وأنه كفء لابنة السادات، فضلاً عن أصدقائه وأنصاره السياسيين وعلى رأسهم الخديوي عباس حلمي نفسه، فقد كان علي يوسف صديقاً شخصياً له، ومدافعاً دائماً عنه.

الفريق الثاني هاجم «يوسف» وكان يتكون من أغلبية الرأي العام، ويضم ألواناً مختلفة من الناس خاصة أولئك الذين يؤمنون بالأخلاق القديمة كلها ويرون أن الحسب والنسب شيء مقدس لا يرقى إليه العصاميون.

ضم هذا الفريق أيضاً كل الذين يستغلون الجهل السائد من مشايخ الطرق ومشعوذي الأديان، وكل خصوم علي يوسف السياسيين الذين لم يجدوا في قضية الزواج إلا مناسبة للتشهير به والطعن عليه، فتسابقت الصحف المعادية تكيل له أقذع التهم، وتعيره بفقره القديم وزواجه الحرام.

تسليم الزوجة

وفي اليوم الموعود عقدت الجلسة، وازدحمت القاعة ازدحاماً لم تعرف له المحاكم الشرعية مثيلاً، وكان الشيخ أبو خطوة معروفاً بتزمته الشديد فكان اتجاهه واضحاً ضد علي يوسف. وفي الجلسة الأولى حكم – مبدئياً – بتسليم «صفية» إلى أبيها لمنع المخالطة الزوجية حتى يفصل نهائياً في الدعوى.

وافق «يوسف» على أن تعود زوجته إلى بيت أبيها، ولكن زوجته رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، وأعلنت أنها إذا عادت فستتعرض لأذى شديد، ولذلك فلن تبرح بيت زوجها مهما كانت النتائج.

اهتدى الزوج إلى حل يوفق به بين قرار المحكمة وإصرار زوجته، فاتفق معها على أن تترك بيت الزوجية وتذهب إلى بيت رجل محايد مؤتمن، وخيرها بين بيت الشيخ أبو خطوة قاضي المحكمة نفسه، وبين بيت مفتي الديار المصرية آنذاك الشيخ حسونة النواوي، أو بيت عالم جليل معروف بحسن السمعة هو الشيخ الرافعي. اختارت الأخير، وانتقلت فعلاً إلى بيته وأرسلت إلى المحكمة خطاباً بذلك.

فسخ الزواج

عقدت الجلسة الثانية. وإذا بالشيخ أبو خطوة يعلن أنه لا يعتبر هذا الحل تنفيذاً لقرار المحكمة، ويقرر إيقاف القضية، وإضرابه عن نظر الدعوى أو أي قضية أخرى في المحكمة حتى ينفذ حكمه بإرسال «صفية» إلى بيت أبيها ولو بالقوة.

كان علي يوسف لا يرى زوجته بعد أن ذهبت إلى بيت «الرافعي»، فأرسل إليها خطاباً يحاول إقناعها بالإذعان لحكم المحكمة، لكنها رفضت وأعلنت أنها لن تذهب إلا على أسنة الرماح.

توالت الاجتماعات في وزارة الحقانية بين الوزير وكبار رجال القضاء الشرعي، واحتاج الأمر إلى ضغط كبير حتى عدل «أبو خطوة» عن إضرابه ومضي في نظر القضية.

عقدت الجلسة الثانية مرة أخرى وتبارى دفاع كل طرف في الدفاع عن موكله. بعدها اعتكف «أبو خطوة» 15 يوماً في مكان لا يعرفه أحد لدراسة القضية.

أصدر «أبو خطوة» أخيراً حكمه بفسخ عقد الزواج والتفريق بين الزوجين، وإذ به يؤيد ما ذهب إليه «السادات» وفي لهجة قاسية، بل إنه أضاف شيئاً طريفاً. رأى أن ثراء علي يوسف الحالي لا يمحو عنه وصمة أنه كان فقيراً ذات يوم. ولجأ علي يوسف إلى محكمة الاستئناف لكنها أيدت الحكم الأول.

زواج ثان

بعد أن صدر الحكم على هذا النحو، وشعر «السادات» بأن كرامته ردت إليه، اتصلت المساعي بينه وعلي يوسف حتى رضى الأول بأن تتزوج ابنته من «يوسف» بعقد جديد.

الغريب أنه بعد كل هذه الحرب التي دافع فيها الزوجان عن زواجهما لم يكن «يوسف» موفقاً أبداً في حياته الزوجية مع «صفية»، وأنها كانت دائمة التنغيص له ما دفعه لأن يرابط في مكتبه بالجريدة 20 ساعة متوالية في اليوم، فراراً من البيت.

ولما مات سنة 1913، كانت زوجته ما تزال شابة، فعاشت بعده 30 سنة وأحبت الممثل المعروف وقتئذ زكي عكاشة وتزوجته.

المصدر

  • كتاب «أيام لها تاريخ». أحمد بهاء الدين.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية