رئيس التحرير أحمد متولي
 الرُباط.. ملاذ الزاهدات ومأوى العجائز والمطلقات والأرامل

الرُباط.. ملاذ الزاهدات ومأوى العجائز والمطلقات والأرامل

شهدت مصر خلال العصر الفاطمي إنشاء بيوت خُصصت للنساء المنقطعات للعبادة والزاهدات سميت بـ«الرُبط»، غير أن هذه البيوت زادت في العصور التالية وامتدت وظيفتها لتأوي أيضاً الأرامل والعجائز والمطلقات. فما هي حكاية هذه البيوت؟

تكايا النساء

نشأ الرباط مرتبطاً بالنسوة الزاهدات في العصر الفاطمي، إذ أن مشاركة المرأة في الحركات الصوفية لم يكن أمراً جديداً، بل يعود إلى العصور الإسلامية الأولى.

ولكن إنشاء المؤسسات الصوفية المخصصة للنساء بدأ فقط مع القرن الثاني عشر الميلادي. ووفقاً للمؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» فإن عدداً من من زوجات الخلفاء الفاطميين وجواريهم قد أسسن بعض التكايا للنساء في جبانة القرافة بالقاهرة، حيث كان بمقدور الأرامل العجائز والزاهدات أن يعشن هناك في عزلة. وسرعان ما ظهرت مؤسسات مماثلة في مكة وبغداد.

وبرز الرباط على أنه تكية للمحتاجات والعزباوات الفقيرات، مع توفير الرعاية الاجتماعية لهم كهدف أساسي.

العصر المملوكي

وبلغ إنشاء الأربطة في جميع المراكز الحضرية المملوكية ذروته في النصف الأخير من القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الميلاديين. فرباط البغدادية الذي تأسس في القاهرة عام 1258 كان الأكثر شهرة بين أربطة النساء آنذاك، إذ وقفت ابنة السلطان بيبرس «تذكار باي خاتون» تلك المؤسسة على امرأة صوفية تُدعى زينب البغدادية، ومن ثم اكتسب اسمه منها.

وفي عام 1295 أنشأ الأمير علاء الدين بن البراباه رباطاً للست كليلة، وهي أرملة أمير كبير آخر، وفي عام 1315 ألحق الأمير سنقر السعدي رباطاً للنساء بمدرسة وقفها بالمدينة. وكانت الوظيفة الأساسية بالأربطة توفير المأوى للأرامل والمطلقات والنساء المهجورات، وعلى الأقل كانت هناك ستة أربطة إضافية للأرامل والعجائز كانت تعمل في جبانة القرافة خلال القرن الرابع عشر الميلادي.

مسكن الأرامل والمطلقات

وقد أسهب المقريزي في الحديث عن الاستبداد في رباط البغدادية، فوفقاً لوصفه فإن الأرامل والمطلقات ينبغي أن يبقين هناك خلال فترة العدة، وذلك صيانة لهن عن العلاقة المحرمة، حيث تجبرهن الشيخة على أداء الصلوات الخمس وسائر الأعمال التعبدية الأخرى.

ويبدو أن بضع نساء على الأقل وضعن في رباط البغدادية رغماً عن إرادتهن. ففي رواية للمقريزي مثلت امرأة أمام حسام الدين الغوري قاضي قضاة الحنفية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي لتطالب زوجها بدين لها في رقبته. وعندما أصدر القاضي أمره بوضع الزوج في السجن، طالب الأخير أن تودع زوجته برباط البغدادية، وذلك صيانة لعفتها خلال فترة سجنه.

دور صوفي

غير أن اختزال أربطة النساء في جوانبها الاستبدادية فحسب يعد ظلماً للتطلعات الروحية للمرأة المسلمة في العصور الوسطى. فبعض مؤسسي الربط كُن من النساء، كما اختار عدد غير قليل من نساء النخبة قضاء سنوات الترمل هناك.

وعوضاً عن تلك النظرة، ينبغي النظر إلى الأربطة بوصفها مظهراً، وإن يكن استثنائياً من مظاهر انتشار التصوف خلال القرن الثالث عشر الميلاي، فالمرأة كانت تتحرك من ذات المنطلقات المتعلقة بمُثُل الزهد والروحانية نفسها، مثلها في ذلك مثل الرجل، بيد أنه لم يكن بالإمكان دمجها في مؤسسات الرجال، وهذا يشير إلى أن وظيفة الربط كانت دينية في المقام الأول. ومن ثم فقد بدت الرُبط كمؤسسات مناظرة للمؤسسات الصوفية الخاصة بالرجال، ولاسيما أن رباط البغدادية كان مجاوراً لخانقاه بيبرس وهو مكان مخصص لتصوف الرجال.

تراجع الدور

وشهد القرن الخامس عشر انخفاضاً في عدد المنازل الدينية المخصصة للنساء في أعقاب التضخم السريع، الأمر الذي كان له تأثيرا سلبيا على الأوقاف بشكل عام، فقد خُفضت الرواتب الثابتة التي نصت عليها وثائق الوقف مسبقاً. ولم تتمكن معظم الخانقاوات الصوفية من صرف ما يكفي من الغذاء أو النقد للمستفيدين منها، ومن ثم هجرها العديد من قاطنيها.

وتضرر رباط البغدادية بشدة من جراء الأزمة الاقتصادية عام 1403 حتى أن المصادر التاريخية اللاحقة أهملت ذكر تلك المؤسسة مرة أخرى، ما يشير إلى أنها أوغلقت أبوابها. كما أن نساء الرُبط في مقابر القرافة عانين من مصير مشابه، حتى أن أجزاء كبيرة من الجبانة قد هقجرت في أعقاب تلك الأزمة.

أما نساء التكايا فلم يختفين تماماً من المشهد القاهري، وإن بدت مؤسسات القرن الخامس عشر أقل وأصغر مقارنة بأسلافها. فزينب بنت ابن خاصبك زوجة السلطان إينال أسست رباطاً للأرامل شمال القاهرة، وسعت حسنا بنت علي محمد الشاذلي وهي ابنة شيوخ الصوفية إلى توسيع نشاط الطريقة من خلال بناء رباط للنساء.

المصدر

  • كتاب «الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط». الدكتور يوسف رابوبورت. ترجمة أحمد العدوي.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية