رئيس التحرير أحمد متولي
 «أدوية الاكتئاب لا تشفي داء الثورة».. 3 شباب يحكون انتكاستهم النفسية بسبب يناير

«أدوية الاكتئاب لا تشفي داء الثورة».. 3 شباب يحكون انتكاستهم النفسية بسبب يناير

أرواح باتت مهزومة، ذاكرتهم لا تحمل إلا مشاهد الدماء التي سالت على الأسفلت، مواقف الغربة الأبدية تبدو متحجرة في الرؤوس، فمن بعد العنفوان والثورة باتت الأمور رتيبة تمر كأسراب النمل المنهكة تتحرك ببطء قاتل، مشاهد فراق الأحبة الذين ارتحلوا في شتاء يراه البعض مقدسا حرر مصر مما كانت فيه، يعتقد آخرون بأنه فتح عليها أبواب جهنم الحمراء، هي الوحيدة العالقة في الأذهان.

«حياتي بقت مفهاش أي متعة حتى الحكاوي نفسها معدش ليها شغف، وحسيت إني كبرت فجاءة» الكلمات السابقة هي استهلال من عبد الله.م  أحد الشباب الذين شاركوا في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، لكنه الآن بات محطما نفسيا، دخل فيما يسميه علماء النفس بـ«اكتئاب ما بعد الثورة» ونسميه نحن اكتئاب ثورة يناير.

عبد الله الذي يخشى ذكر اسمه واسم الحزي الذي انتمى إليه، يخطو نحو عامه الثلاثين، بدأ التأثر في كلامه منذ طرح التساؤل عليه، «هل أصيب من شاركوا في الثورة بالاكتئاب»، ليبدأ في سرد وقائع عاشها على مدار نحو 7 سنوات عجاف، كما يصفها هو.

عبدالله

يفتقد المتعة في حياته

«كان نفس أحكي من زمان حياتي قبل الثورة كانت مستقرة لم أكن ناشطا سياسيا، لكني لم أكن مستهتر.. فقط أهتم بالوضع العام.. لم أكن حتى أتمتع برفاهية كما هو الحال حاليا، فأنا الآن أخرج مع أصدقائي للمصيف والتنزه، بشكل متكرر لكن للأسف لا أجد أي متعة في ذلك».

يكمل الشاب الثلاثيني الذي انضم إلى أحد الأحزاب التي شكلت بعد ثورة يناير، لكن الحزب انهار حاليا وبات مشتتا: «حتى الكرة شغفي الأول لم أعد أجد نفسي فيه، أشعر وكأنني فجأة دخلت لكواليس لا أستطيع العودة منها، كأن روحي تدمرت وكبرت فجأة وبدون سابق إنذار».

عبد الله يقول إنه على عكس الغالبية الذين يعرفهم من أصدقائه الذين ذهبوا لأطباء نفسيين عقب انهيار أحلامهم وضياع فكرة الثورة من رؤوسهم، لم يذهب للطبيب، لكنه عمل ببعض النصائح التي قيلت له ليتجاوز حالة الاكتئاب التي دخلها.

كان يسجل كل ما يشعر به على الورق، لينفس عن نفسه ما بها.

وجد نفسه قاتلا أو مقتولا

بلهجة حزينة يكمل الشاب الذي يعمل في مجال المحاماة حاليا، أنه لم يسبق له أن شارك في أي اشتباكات حدثت وقت الثورة، ولم يلق بالحجارة أو غيرها، لكن الذكرى التي لا تفارق رأسه أو حسب وصفه «دمرني نفسيًا» يوم أن قرر الصعود إلى حي المقطم ومواجهة أتباع جماعة الإخوان هناك، كان ذلك قبل أحداث 30 يونيو وعزل محمد مرسي.

«يومها شفت دم كتير ولأول مرة اتحطيت في موقف قاتل أو مقتول اضطريت أدافع عن نفسى كملت بعديها بس عارف لما روحك تتشرخ بسبب إنك ضربت إنسان أو حدفت طوبة».

يسكت عبد الله ليبتلع ريقه ويجمع أفكاره ثم يقول بعدها بفترة قليلة جاءت 30 يونيو وشاركت فيها، وصولا إلى يوم 14 أغسطس 2013، وحدث ما حدث، بعدها «انعزلت عن العالم نهائيا كانت أجلس في غرفة فيها سرير ومنضدة وجهاز الحاسب الخاص بي، لا أخرج ولا أكلم أحد ولا أحد يكلمني».

ظل 7 أشهر في عزلة

قضى عبد الله 7 أشهر على هذه الحالة، الجميع يصحو وينام ويمارس عمله وهو باق في حجرته فقط يأكل ما يبقيه حيا وينام، لكن أسئلة بدأت تدور في رأسه «أنا عايش ليه؟ اللى أنا عملته صح ولا غلط».

وقتها كنت أشعر برفض مجتمعي مريب، وحاولت أن أكون من مؤيدي الحكومة التي أصدرت قانون التظاهر ولاحقت الثوار، لكني لم أستطع «معرفتش كان الموضوع صعب جدا» لم أتعود أن أنافق أحدا تسببت هذه الحالة في الانعزال 3 أشهر أخرى.

بعدها قرر عبد الله تغيير مجاله المهني، وتغيير صفحته على فيس بوك والتعرف على أناس جدد، وغير أرقام هواتفه، اعتقادا منه أنه يستطيع نسيان ما حدث في ذلك اليوم من شهر يناير 2011، لكنه لم يستطع.

حاليا بات عبد الله ناجحا في عمله كمحام، لكن المشاعر الأولى لم تفارقه «لغاية النهاردة عندى أزمة لما بشوف باريه أحمر ممكن أتشنج أو أمشى من المكان، لأنه بيمثلي حجات كتير أوى وذكريات أليمة».

يكمل: «لم أتمنى أبدا أن أصل لهذه الحالة، أيضا بات مجرد الحديث مع بعض الضباط بحكم العمل يشكل أزمة نفسية، حتى أنني أحيانا أصطنع احتكاكات مع بعضهم بشكل لا إرادي، لم أستطع أن أكون أصدقاء من رجال الشرطة رغم أن كثيرين منهم جديرين بذلك».

مروان

عامل من العلاج النفسي

حالة عبد الله لا تختلف كثيرا عما مر به مروان. ن، وهو اسم مستعار طلبه صاحب الحكاية الأصلي، والذي تسببت الأحداث السياسية في مواظبته على العلاج النفسي لعام كامل، قبل أن يقرر الانقطاع.

في حكايته التي رواها لـ«شبابيك» يقول الشاب الثلاثيني إنه كان لا يعمل بالسياسية قبل ثورة يناير، فقط كان له نشاط حقوقي وتطوعي محدود جدا، ومع هبت يناير كان من أوائل المشاركين بحكم كونه من سكان القاهرة.

القشة التي قسمت ظهره

بصوت خافت يغالب فيه البكاء يحكي مروان، «القشة التي قسمت ظهري هي فقدان أعز أصدقائي، في حدث سياسي، كنا في الذكرى الرابعة للثورة، وكانت الفاعلية مجرد إحياء للذكرى، لم يكن متوقعًا أن تحدث اشتباكات أو مواجهة».

يستعيد مروان الحكاية من بدايتها قائلا: «لما انتصرت ثورة يناير اقتنعت بالحلول السياسية لذا انضممت لأحد الأحزاب اليسارية، وظللت مفعما بالنشاط حتى جاءت 30 يونيو، لكن بعد شهور سقط صديقي».

بلهجة حاسمة يقول «كثيرون من معارفي سقطوا سواء في المواجهات مع نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، أو حتى في الأحداث التي تلت ذلك، وكانت الأمور تبدو أقل حدة؛ لأن الجميع كان ينزل من بيته وهو متوقع أن يموت، لكن صديقي مات بدون سبب لم يكن هناك أي مبرر لقتله.. لم نصنع شيء».

رحلة العلاج النفسي التي خاضها مروان، كانت قاسية، دخلها بضغوط من أصدقائه بعدما تدهورت حالته النفسية، لكنها لم تكن مجدية، «كانت مجرد تقليب للمواجع، الطبيب يطلب مني المستحيل يريد أن أتعايش مع الأمر الواقع ولا أحمل نفسي ضغوطا نفسية، والظرف العام في مصر وقتها كان مؤلما».

يختم مروان حكايته قائلا: «بعد سنة من العلاج النفسي اكتشفت أنه غير مجدٍ مجرد عقاقير كيميائية وأدوية على الفاضي».

صفية

كل شيء ينهار

رحلات العلاج النفسي مر بها غالبية من اشتركوا في العمل العام بعد الثورة، هكذا تقول «صفية. أ 35 عاما»، في البداية كنت عضوة في أحد الحركات السياسية، لكن بعد سنوات كل شيء انهار.

في حديثها لـ«شبابيك» تقول صفية إنها كانت مؤمنة أن الأجواء ستؤول للأحسن، لكن كل شيء تلاشي تدريجيا الأمر لم يقتصر على الوضع السياسي العام، لكنه انسحب حتى على الزملاء والرفاق الذين بنوا أحلامهم معا، حيث بدأت تظهر داخل كيانها السياسي تحزبات وانشقاقات سياسية، حتى انهار تماما.

حاليا اعتزلت صفية العمل السياسي تماما بعدما خاصت العلاج النفسي لدى أحد الأطباء بمنطقة مصر الجديدة، وباتت مهتمة أكثر بالفن وقراءة الأدب الرومانسي، لكن ذكريات يناير مازالت عالقة برأسها.

عبدالغني دياب

عبدالغني دياب

صحفي مصري متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية