رئيس التحرير أحمد متولي
 منى سليم تكتب: قُبلة في نفق شبه مظلم

منى سليم تكتب: قُبلة في نفق شبه مظلم

"كم بوسة لزمت لأجل ما أصبح جميل"... يغنيها "منير" في أذني مرات ومرات بينما أمر أنا في هذا النفق شبه المظلم في طريق العودة.

أحلق كنت وسعيدة، تتشكل الوجوه داخل النفق وفق حالتي المزاجية لا أكثر، فرأيتهم يحملون الأكياس، يمسكون أيادي أطفالهم،  بعضهم في ذهاب والآخر في إياب.. فالجميع رحًالة ومن نفق لنفق يمضون.

وجدت بهم حياة رغم أي تفاصيل أخرى، وجدت بهم "تيه" و"عشق" و"هيام" ـ أو هكذا أردت ـ حتى لا يفسدون علىً النغمة ولكن رغم عني اخترقت تلك الذبذبات المزعجة المشهد الأثير.

لم أميز في البداية لكن بعد قليل أصبح لا مجال للشك .. هناك سيدة تبكي وتولول ولكني لا أراها .. أزحت سماعات الغيم الجميل عن أذني وعدت أسبح بقرون استشعاري وسط الواقع اللطيف.

الصوت يأتي من هذه الغرفة المغلقة فى نهاية النفق، ثلاثة أصوات متداخلة، صوت نسائي محاصر بين ذكوريين، وكان هذا الحوار:

- "الله يخليك انا متجوزة وعندي عيال ربنا يسترها عليك دنيا وآخرة.. والله ما عملت حاجة.. يارب خدني يارب".. ثم انتحاب شديد وصريخ.

+ "دلوقتي افتكرتي إنك متجوزة ..  امال لو كنتي حلوة شوية كنتي عملتي ايه.. "اتكتمي يا ولية انتى وبطلي الحركات دى بدل ما اطين عيشتك بزيادة".

نظرت حولي، الجميع يمر دون توقف في اتجاه السلم الكهربائي للخروج من النفق، بالتأكيد هم يسمعون ما أسمع، رجل وسيدة توقفوا لحظة فأشرت لهم للتشاور عما يحدث وقبل أن افتح فمي أشاحوا بيدهم بأدب وضعف ثم تحركوا ضمن الرحًالة.

طرقت الباب ثلاث وعندما لم يات رد، فتحت الباب في تؤدة وأطلت رأسي  وحدها : "انتوا مين؟ و بتعملوا إيه؟".

ثوان معدودة بدًل الجميع فيها أماكنه و أدواره كأننا في لعبة الكراسي الموسيقية، أنا فى منتصف الغرفة ، السيدة تلتفت بكل جسدها نحوي وتجري في اتجاهي مستغيثة، الذكوريين في زي مدني لم يتوقفا عن الشخط والنطر لكن هذه المرة ضدي أنا، وافد جديد  دلف إلى الصورة التي كونتًها أذني من أمام الغرفة المغلقة، رجل خمسيني متكوم كخرقة بالية فوق أحد المقاعد المهترئة  الجوانب ولا يصدر عنه أى صوت أو نفس.

غرفة مكتب أقرب للقذارة منها للتواضع، مكتب بنى صغير و أمامه كرسيين خشبيين، أنتريه مهترىء والأسفنج المتسخ يعلن عن نفسه بوضوح كأن أحدُ بقر بطن المقاعد، و .. منضدة متوسطة عليها جهاز كمبيوتر وشاشتين كبيرتين وعدة وصلات كهربائية

بعد شد وجذب ورفض لدخولي الى المكان المكدس بالملل، أتضحت الصورة  فالنفق الحكومي يشرف على ادارته و أمنه شركة خاصة وقد قامت بتثبيت كاميرات مراقبة فى أكثر من جانب به، وهذان الرجلان (تعرفت على أحدهما بعد ذلك بصفته شاب حاصل على دبلوم تجارة ولم ينجح فى اختبارات الالتحاق بمعهد أمناء الشرطة بعد الثورة وهو ما أصابه باليأس الشديد ) يمارسان صلاحيتهما من داخل هذه الغرفة في مراقبة الموقف واتخاذ التدابير اللازمة.

و ..هكذا ألتقطت الكاميرات مشهد سخيف لا ساخن لهذه السيدة المتوسلة وذلك الرجل المتكوم حيث يمد هو ذراع منحول على كتفيها وهي مترددة تنتزع من شفتيها ضحكة بلهاء بينما يطبع هو قبلة على خدها و يقولها لها "انا زى اخوكي وتحت أمرك فى أى حاجة"، تستمر هى فى الابتسام متجاهلة ذراعه الذي يتحسس كتفها و يغرس به أصابعه وتكتفي بشد خمارها على مقدمة رأسها.

"يااستاذة انتى شكلك بنت ناس ومحترمة ومايصحش واحدة زى حضرتك تقولى عايزة اشوف" ..يقولها الذكوري الأول الأشبه بموظفي البريد، يقولها ولا يفارق مكانه امام جهاز الكمبيوتر وكأنه ممسك بعجلة القيادة بينما يتأفف الذكوري الثاني الأصغر سناً الذي فاته الحظ كأمين شرطة مخضرم فيقول "هي حرة يا عم ــ لو هى بتقبل كده ع نفسها، اصل الواحد ياما شاف فى المكان ده و لسه هايشوف بس احنا ناس بنحترم نفسنا وشغلنا و الست دى هاتروح القسم ولو مش عاجبها تروح وراها هناك وهم بقى يوروها بطريقتهم".

السيدة كالنحلة لم تتوقف، تنتقل من يد لآخرى تتوسل الشفقة والرحمة حتى لا يتم الاتصال بقسم الشرطة اما الرجل المتكوم فأخذ يفرك ويفرك حتى أخرج منديل من جيبه لا يقل عنه اهتراءاً ومسح عرقه.

بالنهاية عَمِل المشترك بين البشر عمله، تبادلنا الرؤى عما شاهدناه جميعاً على شاشة الكمبيوتر ثم لم نتفق على شىء، الإرهاق والملل علًه هوالسبب الوحيد الذي أدي للسماح للسيدة أن تذهب معي مع اتفاق واضح هزت هى رأسها بحماس شديد مع تلاوة أول بنوده: "واوعي أشوف وشك تاني فى النفق ده و الا هاخرب بيتك يا ولية ياناقصة "

لم أؤدي دوري كما كان ينبغي له او كما اتمناه الآن بينما استعيد الموقف بكتابة هذه السطور، قلت بعض الأشياء عن الفقر والتفرقة، عن الأمراض النفسية والأفكار البالية، عن الحزم و الجبروت، عن الأمن العام لا شرطة الأخلاق، عن الفرحة المكتملة والملابس الفاخرة لمن يقبلون بعضهم فى ردهات سيتي ستارز وبين الخمار المعووج على رأس لتلك السيدة.

وسمعت كلام آخر  ـ و قد جاء أكثر قوة وترتيباً ـ عن الشرع والأصول، عن القانون الذي لا بًد أن يحترم، عن الأمانة والشرف  ثم أخبرني الشاب بكبرياء مجروح أن الحديث عن الفروق الاجتماعية كلام فارغ و تشكيك فى ذمته فلديه فيديوهات أخرى ألتقطتها الكاميرا لثنائيات أخرى ذهب بهم جميعاً إلى قسم الشرطة ولم ينهيه عن ذلك كنية او مهنة الـ ..."متهمين"، يقول أنهم كثيرون ومن كل صنف و لون.

جرجرتني السيدة الى الخارج وهى تمسك بخصري وتكاد مقلتي عينيها تسقط على الأرض، نظرت لها وتمنيت لو أى من هؤلاء الـ "متهمين" يكوناً تبادلا قبلة عشق مجنونة لا مجرد قبلات مشبعة بالغباء وحركات تحسيس مفضوحة كتلك التي عاشتها هي، فلا بد لك أيها العالم الملعون من "بوسة " لأجل ما تصبح جميل.

خرجنا إلى النور، سمعت قصة توقعتها، قصة لها كل مقومات الحقيقة والاكذوبة كما قصص البطولة الساذجة لموظف الأمن، أعطيتها رقم هاتفي ولم تتصل ولو مرة، لم تهتم  أى منا بمناقشة مصير الرجل المتكوم كما أسميه او "الراجل الواطي" كما كانا يطلقان عليه داخل الغرفة.. افترقنا.

..

أكتب هذه الكلمات الآن واكتشف أن "منير" يقول كما اخبرني الكثيرون مراراً "من فجر عمر الكون لحدي انا كم بوسة لزمت لأجل مااصبح جنين"، أكتشف ثم اتجاهل، فلا زلت أريد أن أسمعها كما سمعتها أول مرة، لا زلت أقف لأتلقي الهدايا من القدر، واتمنى أن يجعلني من رحلة لأخرى شاهدة على "واد و بنت اتقابلوا عبر السنين" على "همسة همسوها ولمسة حنين" على "بوسة حب مسروقة" لاجل ما يصبح كل ما بي و أتمناه للآخرين .."جميل"

لا زلت أسير داخل كل نفق وأجد أن الأكثر منطقية هو طرح الأسئلة لا الوصول لإجابات عن إن كان "الحب حلم و بس ولا بصحيح" و إن كانت "الدنيا حلوة و شمس و لاغيام" ..؟!!

..

** ملحوظة: هذا الفيديو الذي شاهدته بالغرفة المغلقة فوجئت ببثه على احد المواقع الصحفية (مع بعض التمويه على الوجوه) كفعل منافي للآداب وذلك بعد اسبوع من الواقعة .. وقد عدت للكتابة عنها بعد سنة كاملة

شبابيك

شبابيك

منصة إعلامية تخاطب شباب وطلاب مصر