جاء من الظلمات وفيض من الإله لمصر وإثيوبيا.. هكذا اعتقد المصريون القدماء في منابع النيل
كان قدماء المصريين يحملون احتراماً عقائدياً لنهر النيل، لكونه السبب في صيانة أرواحهم من مهالك القحط والجدب وانتشار الفاقة واستحكام الضيق، لاسيما أن عوام الناس وخاصتهم كانوا مقبلين على الزراعة والاعتناء بها أكثر من أي شيء. ورغم هذا الاهتمام لم يستطيعوا التوصل إلى منابع النيل والإلمام بحقيقتها، واكتفوا بإضفاء صبغة القدسية عليها.
ويذكر أنطون زكري في كتابه «النيل في عهد الفراعنة والعرب»، أن عدم إلمام المصريين القدماء بمعلومات عن منابع النيل كان شأناً عاماً، ولم يكن يعدونه تقصيراً في الوجهة العلمية. ولاحظ ذلك المؤرخ الشهير هيردوت الذي قدم لمصر قاصداً البحث وجمع الاستدلالات في هذا الشأن حتى قال «لم يسعّفني أحد شيئاً عن منابع النيل»، وأيدت رأيه أنشودة النيل التي كان الفراعنة يترنمون بها في المواسم والأعياد ويعترفون فيها «بأن النيل آتٍ من الظلمات».
وذُكر في كتاب «الموتى» الذي يتضمن مجموعة من الوثائق الدينية والنصوص الجنائزية التي كانت تُستخدم في مصر القديمة، «أن النيل مولود من رع» أي الشمس التي هي أكبر الآلهة عند المصريين القدماء.
ويقترب من هذا المعنى أنه وُجد مكتوباً في ورقة بردية (من ضمن أوراق التحنيط) نص بالمعنى الآتي (في بطاقة عند مقبرة أحد الموتى) : «انك أيها الراحل في لحد الخلود، سيفيض عليك النيل في مضجعك الأخير أثراً من بركاته، لأن ماءه آتٍ من مدينة أبو (أي جزيرة أسوان)، وهذا النيل ينفجر من هوته، هذا (نو) الخارج من ينبوع صخري كأنه الفيضان يفور من خزانته والمياه تتدفق من يبوعها».
شطران من أسوان
وقال المؤرخ هيردوت أن أمين معبد الآلهة «نيت» بمدينة سايس أخبره بأن بين مدينة «سيين» بطيبة ومدينة جزيرة أسوان جبلين أولهما يُدعى باللغة المصرية القديمة «كروفي» أي هوته، والثاني «موفي» أي مياهه، وبين هذين الجبلين تنفجر منابع النيل من هوة عظيمة وينصب الماء منها طبقاً لطبيعة الحواجز الصخرية هناك إلى شطرين أحدهما إلى مصر في الشمال والآخر إلى أثيوبيا في الجنوب.
وقد اجتهد هيردوت لما أتى مصر بمباحثه العلمية من الوجهة الجغرافية وتحدث كثيراً مع طبقات الكهنة، فلم يبوحوا له بشيء من معلوماتهم إلا فيما يتعلق بعظمته المشهورة ومكانته الراسخة في النفوس كمعبود يؤدون له فرائض العبادة والإجلال ما استطاعوا، وخصوصاً في الأوقات التي حددوها لذلك عند بدئه في الزيادة وبلوغه منتهى الفيضان ومبادئ تصريفه في الأقاليم، ورتبوا على ذلك الأعياد والمواسم الشهيرة والمظاهر السنوية ترحيباً بوفائه وشكراً لما يغدقه على الأرض من نعيم الخصوبة والرغد.
وقد اكتشفوا في معبد بيلاق الذي شيده الامبراطور «تراجان»، رسماً يمثل الإله «حعبي» أي النيل في مخبئه، وتفسير هذا الرمز أنه يوجد فوق صخور مرتفعة عليها رسما الصقر والباشق (طائر)، وفي حجرة يُرى بداخلها هيكل إلهي لإله راكع، حاملاً في يديه آنية تخرج منها فيوضات النيل المباركة. ويجد الرائي مرسوماً على رأس الحجرة حية ملتفة على نفسها، وبين رأسها وذنبها منفذ ضيق لمرور النيل.
وهذا الرسم فسّره كاهن مدينة سايس للمؤرخ هيردوت بأنه منتهى معلوماتهم عن منبع النيل، فهو فيض من عند الله لم تصل استطاعة أمثالهم لاكتشاف أوائله غير ما هو مشاهد للزائرين في أطراف وادي النيل. ويقصد الكهنة بذلك وقوف الأمة عند هذه النقطة وعدم التطلع عند مباحث أخرى.
ممنوع دينياً
وكان علماء المصريين مع كثرة الرموز العلمية وسعة المعلومات المحفوظة في الصدور والمرموز إليها في المخلدات الأثرية لا يسمحون لمعاصريهم ولا لزائريهم من فجاج الممالك بالتوسع في مباحث عن ينابيع النيل وأوائل مصدر فيضه، لأنهم يعتقدون أن كثرة البحث في ذلك ممنوعة دينياً، وتعرّض المشتغلين بها لحلول النقمات التي تنذر بها الكتب المقدسة.
وكانوا يعتقدون أن النيل فيض من البركات الإلهية يتنزل من السموات العلى إلى عالم الأرض فيكون منها الرغد والسخاء وصلاحية الأرض لكل نبات يحتاجه الإنسان في أدواره المعاشية، ولهذا كانوا يسمونه أب الآلهة «أتِف نترو».
ولم يلتفت قدماء الباحثين من المصريين إلى أسباب الزيادة في النيل في أزمنة الفيضان، لاعتقادهم أنه قدسي في تكوينه وفي تأثيره وفيما تعرف الخلائق عنه، لأنه سر من فيض البركات الإلهية، اختص الله بها هذا الوادي السعيد، وجعله إلى الأبد مصدر الرفاهية والسعة والإغداق بأنواع الأرزاق التي تفي باحتياجات قاطنيه، وبسد العوز لكل الطبقات التي تأوي إليه ويجدون فيه حرماً آمناً.
انتصار وهمي
واستمر الناس على الاعتقاد بأن ينابيع النيل مما يعسر على الباحثين حل غوامضه إلى عصر الرومان، فأرسل نيرون بعثة رسمية لاكتشاف هذه المنابع، فوصلت بعد مستنقعات واسعة إلى صخرين تجري فيهما المياه فظنوهما المنابع الأولى للنيل، وعادوا يتوهمون لأنفسهم الظفر بما لم يستطيع غيرهم الوصول إليه.
وقال المؤرخ الروماني بلين أن منبع النيل آت من موريتانيا في شمال أفريقيا، وأشار سينك إلى أن منبعه يبتدئ في ضواحي مدينة بيلاق (الآن بيلا في كفر الشيخ).
بينما ذكر قال المؤرخ لوكين أن منبع النيل الحقيقي لم يُعرفه أحد في العالم، ووافقه على ذلك المؤرخ اميان مرسليان أحد علماء القرن السابع الميلادي، فذكر أن منتهى ما وصلت إليه الاجتهادات وتجول البعثات في رحلاتها أن منابعه آتية من بحيرات أفريقيا الوسطى. وكان قدماء الباحثين يضربون الأمثال بمعرفة منابع النيل في استحالة الوصول إلى غرض يرضي ويقنع الباحثين.