رئيس التحرير أحمد متولي
 هؤلاء تركوا أثراً في نجيب محفوظ.. مشايخ وأجانب

هؤلاء تركوا أثراً في نجيب محفوظ.. مشايخ وأجانب

لا يمكن لأي موهبة أن تعرف طريقها للنضوج دون مؤثرات حياتية تترك بصمتها على صاحب هذه الموهبة، وتثقله وتوجهه إلى الطريق الصحيح. فترة الدراسة الثانوية والجامعية من أهم الفترات التي تعرض لها أديب نوبل نجيب محفوظ، إذ لعب عدد من أساتذته دورا في تشكيل توجهاته وبلورة أفكاره ورؤاه الأدبية والفكرية.

الشيخ عجاج

يقول «محفوظ»: وحدث ذات مرة أن حاصر البوليس مدرستنا في عهد حكومة إسماعيل صدقي باشا، فدخل التلاميذ إلى «اليمخانة» وأخذوا منها السكاكين والملاعق والأطباق والأواني لمقاومة قوات البوليس ومنعهم من اقتحام المدرسة، وكان أن عاقبتنا إدارة المدرسة بالحرمان من وجبة الغذاء، وكم تألمنا من هذا العقاب.
​​​​​​​

في مقدمة هؤلاء «الشيخ عجاج» أستاذ اللغة العربية بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، وهو من خريجي دار العلوم. ذكر رجاء النقاش في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» على لسان أديب نوبل: «لم يكن عجاج مدرساً للعلم فقط بل كان معلماً للوطنية، حيث كان أحد الأسباب المباشرة التي جعلتنا نحن تلاميذ تلك المدرسة ننفعل بثورة 1919 ونعشق زعيمها سعد زغلول».

وتابع «محفوظ»: كان الشيخ عجاج داعية من دعاة الثورة، وحتى في دروس اللغة العربية كان يستشهد بمواقف وأقوال زعمائها، وأذكر أنه ثار ذات مرة ثورة عارمة على زميل لنا من أبناء الذوات لأنه رفض الخروج معنا في إحدى المظاهرات، ونال ذلك التلميذ قسطاً هائلاً من التعنيف والتوبيخ على لسان الشيخ عجاج الذي اتهمه بالخنوع وقلة الوطنية وقال له في غضب: «زملاؤك يعرضون أنفسهم للموت من أجل استقلال الوطن وأنت جالس هنا. إنك تأتي للمدرسة من أجل اليمخانة». و«اليمخانة» هو المكان الذي يتناول فيه التلاميذ وجبة الغذاء.

يقول «محفوظ»: وحدث ذات مرة أن حاصر البوليس مدرستنا في عهد حكومة إسماعيل صدقي باشا، فدخل التلاميذ إلى «اليمخانة» وأخذوا منها السكاكين والملاعق والأطباق والأواني لمقاومة قوات البوليس ومنعهم من اقتحام المدرسة، وكان أن عاقبتنا إدارة المدرسة بالحرمان من وجبة الغذاء، وكم تألمنا من هذا العقاب.

كان الشيخ عجاج من أوائل الذين لفتوا انتباهي إلى جمال التراث العربي وروعته وثرائه، ففي دروس «البيان» كان يستشهد بأبيات شعرية – أغلبها من شعر الغزل – وبحوادث ليست في المقرر الدراسي، وكنت أسأله عن مصادرها فيدلني على عيون التراث العربي، مثل «البيان والتبيين» للجاحظ. ذهبت إلى مكتبات خان الخليلي وبحثت عن هذه الكتب طويلاً حتى اهتديت إليها، ونفعتني قراءتها كثيراً فيما بعد.

كانت العلاقة بيني وبين الشيخ عجاج ودية للغاية، وكان من المعجبين بأسلوبي في الكتابة، كما كان يعتبر موضوعاتي في الإنشاء نماذج تحتذى للتلاميذ. وكان يعكر صفو هذه العلاقة أحياناً بعض الأفكار التي أضمنها هذه الموضوعات ويعتبرها الشيخ مساساً بالدين.

ففي تلك الفترة – والكلام لـ«محفوظ»- كانت نظرتي للدين تتسم ببعض التحرر، ولكني أؤكد أنها كانت نظرة تحررية وليست كافرة. كنت مثلاً أكتب موضوعاً عن عظماء التاريخ وأضع من بينهم محمداً (ص)، فكان الشيخ يعتبر هذا مساساً بقدر النبي وإنزالاً من شأنه، ويعتبرني خارجاً على المقدسات.

الإنجليز والفرنسيون

ويروى «محفوظ»: أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية كان بعض أساتذتي من الإنجليز والفرنسيين، وبينما كانت علاقتنا بالأساتذة الفرنسيين يشوبها قدر من الود وتربطنا بهم صداقات وإن لم تصل إلى درجة العمق، كانت علاقتنا بالأساتذة الإنجليز سيئة، ولم يقم بيننا وبينهم أي نوع من الصداقة والتعاون.

كنا ننظر إليهم باعتبارهم مستعمرين دخلاء، وكان أغلب هؤلاء المدرسين غير مؤهلين للتدريس، وجاءوا إلى مصر سعياً وراء المال والراتب المجزي وليس حباً في العلم.

وذات مرة تغيب مدرس اللغة الإنجليزية، فدخل مدرس إنجليزي اسمه «مستر براين» كبديل لأستاذنا الأصلي الذي غاب، ولأنها حصة إضافية فقد جلس «براين» على مقعده دون أن يفعل شيئاً، وكنت أجلس أمامه في المقعد المواجه له مباشرة، وبدون مقدمات قال باللغة الإنجليزية إنه مندهش من أن بلداً مثل الهند ومصر يريدان الاستقلال عن التاج البريطاني. وواصل كلامه: «الاستقلال ليس لعبة، أنتم شعوب غير مؤهلة للحكم، وعندما يأتي بلد مثل إنجلترا العظمى لتحكمكم، فإن هذا فضل منها ونعمة تستحق عليهما الشكر».

وبحسب «محفوظ»: اعتبرت كلام «براين» ورأيه بمثابة إهانة، فدخلت معه في حوار ساخن، محاولاً إقناعه بخطأ فكرته عن دول العالم الثالث مثل مصر والهند. قلت له إنها دول ذات حضارات عريقة وإنها أهل للاستقلال، وقادرة على أن تحكم نفسها بنفسها، ولكن الدول الاستعمارية هي التي لا تمنحها الفرصة، وتريد إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه حيث تستنزف خيراتها وثرواتها وتستعبدها للأبد.

المرحلة الجامعية

وفي المرحلة الجامعية حيث كان يدرس الفلسفة بكلية الآداب جامعة فؤاد «القاهرة الآن»، وكان الشيخ مصطفى عبدالرازق أكثر الأستاذة تأثيراً على نجيب محفوظ. عنه يقول: «هو مثال للحكيم كما تتصوره كتب الفلسفة، رجل واسع العلم والثقافة، ذو عقلية علمية مستنيرة، هادئ الطباع، ولم أره مرة يتملكه الغضب.. كان من أنصار حزب الأحرار الدستوريين، ويعرف أنني وفدي صميم ومع ذلك لم تتأثر علاقتنا أبداً.. فكان جيلنا يتمتع بصفة جميلة وهي التفرقة بين قضايا الأدب والسياسة».

الشيخ مصطفى عبدالرازق

ويذكر أديب نوبل أيضاً الفرنسي «مسيو كوربيه» وهو أستاذ الفلسفة، وعنه يقول: «كان يتوقع لي النبوغ في مجال الفلسفة، حتى أن أحد زملائي قابله بعد تخرجنا بسنوات، فسأله عني. ولما عرف أنني تركت الفلسفة واتجهت إلى المجال الأدبي أبدى انزعاجاً شديداً وأسفاً عميقاً، وقد أصبح «كوربيه» من أساتذة الفلسفة المعدودين في أوروبا.

ويتحدث أديب نوبل عن أستاذه الإنجليزي الذي درس له علم الاجتماع راوياً: أذكر أن من بين الذين زاروني بعد حصولي على جائزة نوبل عام 1988 إعلامياً إنجليزياً كبيراً، وفي أثناء حديثه معي قال لي إن «بريتشارد» يرسل لك تحياته. وأذهلتني المفاجأة ورنّ الاسم في أذني وقلت في انفعال: «هل ما زال يذكرني؟».

يقول «محفوظ»: وبرتيتشارد هذا كان مدرساً إنجليزياً شاباً درس لنا علم الاجتماع بقسم الفلسلفة في كلية الآداب سنة 1934. والعلاقة بيننا لم تكن وطيدة، خاصة أن مادة علم الاجتماع لم تكن من المواد الأساسية، وكنت مجرد طالب يتلقى على يديه العلم.

وأصبح «بريتشارد» بعد ذلك من كبار علماء الاجتماع أو «السوسيولوجيا» في أوروبا، وهو واحد من بين أساتذة أجانب عاصرتهم في المرحلة الجامعية.

المصدر

  • كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ». رجاء النقاش.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية