الأديب نجيب محفوظ
ذكريات نجيب محفوظ مع الوظيفة الحكومية.. «الشواذ» حرموه من الترقية
لم تقطع الكتابة الأدبية علاقة نجيب محفوظ بالوظيفة الحكومية التي ظل ممسكاً بها حتى إحالته للمعاش عام 1971، باعتبارها مصدر آمن للدخل لا يتأثر بمعطيات الصعود والهبوط مثلما الحال في كتابة القصص والروايات.
وفي كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» روى الصحفي رجاء النقاش بعض محطات من تاريخ أديب نوبل في عالم الوظيفة الحكومية وذلك على لسان «محفوظ» نفسه.
التعامل مع الجميع
يقول «محفوظ»: أعطتني حياتي الوظيفية مادة إنسانية عظيمة، وأمدتني بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباتي، ولكن الوظيفة نفسها كنظام حياة وطريقة لكسب الرزق لها أثر ضار.
يتابع: لقد أخذت الوظيفة نصف يومي ولمدة 37 سنة، وفي هذا ظلم كبير، ولكنها في الوقت نفسه علمتني النظام، والحرص على أن استغل بقية يومي في العمل الأدبي قراءة وكتابة، وجعلتني أستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة، مع عدم تجاهل أوقات الراحة والترفيه.
أمدتني الوظيفة بنماذج إنسانية كانت غائبة عن حياتي.عملت في وزارة الأوقاف وكنت ألتقي بالمستحقين في الوقف للعائلات القديمة، وعملت في مجلس النواب وكنت أتابع الصراعات الحزبية، وكنت أرد على مشاكل الناس التي تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب، ولاحظت كم أن الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضر بمصالح الناس.
عملت أيضاً في إدارة الجامعة واصطدمت بنماذج بشرية أخرى، فبطل رواية «القاهرة الجديدة»، عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة، ولكن سقوطه بدأ وهو طالب. عرفت أيضاً بطل «خان الخليلي» الذي كان زميلاً لنا في إدارة الجامعة واسمه أحمد عاكف.
شذوذ الموظفين
وتابع «أديب نوبل» سرد ذكرياته في أورقة الوظيفة الحكومية: اصطدمت بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسي بين الموظفين، وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشيء إلا بسبب ممارسته للشذوذ مع أحد كبار المسئولين، وكان شذوذ البعض معروفاً ولا يكاد صاحبه يخفيه.
وأذكر أن رئيس لجنة المستخدمين بوزارة الأوقاف قدم لي تهنئة على اختياري للدرجة الرابعة، حيث أنني أمتاز على منافسي في الدرجة وأتفوق عليه في كل شيء. انصرفت في ذلك اليوم من العمل وذهبت لأبلغ والدتي بالترقية، كما أبلغت أصدقائي الذين كنت أجلس معهم على مقهى عرابي، خاصة أنني قبل انصرافي اطلعت على القرار وإمضاء الوزير.
ثم حدث لي أمر محرج. في اليوم التالي مباشرة دخلت على زملائي في مكتب الوزير فوجدتهم في حالة وجوم، فأخبرني رئيس السكرتارية عبد السلام فهمي (كان زوجاً للفنانة ماري منيب) أن الترقية ألغيت، وحكى لي أن عمر باشا وكيل الوزارة – وهو قريب الوزير- أخذ كشف الترقيات بعد توقيعه من الوزير ومزقه أمام الوزير وكان وقتها الشيخ مصطفى عبد الرازق، وقال له إن إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت أوصى بحصول شخص آخر على الدرجة الرابعة، وأصبح علينا أن نقوم بإعداد كشف جديد بذلك، وكان لإبراهيم عبد الهادي علاقة خاصة بمنافسي على الدرجة الرابعة.
وبحسب «محفوظ»: «كانت هذه الحادثة من الأشياء المتكررة في الحكومة، وكان الشاذون جنسياً في نعيم حقيقي، وكانوا يجدون دائماً من يساندهم».
حقد الزملاء
يقول «محفوظ»: كان الأديب كامل كيلاني يعمل معنا في وزارة الأوقاف، ونصحني ذات يوم بضرورة ألا يعرف أحد أني أديب، وأن أعمل في صمت، وإذا سألني أحد عما إذا كنت أنا الأديب الذي تنشر له الصحف قصصاً، فينبغي أن أنفي ذلك.
لقد شرب كامل السم لأنه أديب، ولم يسلم من التعليقات الحادة ومن الحقد، خاصة إذا جاء وزير يكن احتراماً للأدب، فيهيج الجهاز البيروقراطي كله، وإذا منحه الوزير ترقية لا يسكتون، ويسخرون منه لأنه «كاتب الأطفال»، وقد حملوا له كراهية شديدة بسبب منزلته الأدبية، ويزدادون كراهية له بعد أن رأوا كل الوفود العربية القادمة إلى مصر في مكتبه ومنهم وزراء.
لذلك نصحني بألا أقول للموظفين في الوزارة إنني أديب حتى لا أضيف إلى حياتهم هاجساً جديداً ينذر بالخطر عليهم. قبلت النصيحة وعملت بها على قدر المستطاع.
وتقريباً عندما تركت العمل في وزارة الأوقاف لم يكن أحد يعرف أنني أديب سوى كامل كيلاني، وعبدالسلام فهمي رئيس السكرتارية وهو زوج ماري منيب.
الجمهور مصدر إلهام أعمال محفوظ
أخذت من الجمهور وأصحاب المصالح المترددة على الوزارة نماذج لقصصي ورواياتي، خاصة أن «الأوقاف» كانت بمثابة حكومة مصغرة، تلتقي عندها وزارات مصر كلها تقريباً. من هؤلاء أخذت نماذج كثيرة في رواية «المرايا».
استلهمت من المترددين على الوزارة أيضاً رواية «حضرة المحترم». المستوى المادي لها هو الوظيفة والموظف، ولكن في المستويات الداخلية لها فإن البطل يتطلع للعناية الإلهية، ولذلك غلبت عليها اللغة الدينية، ومن يقرأها – خطأ – على أنها رواية عن موظف وحياته في الوظيفة، سوف يجد تناقضاً بين موضوعها وأسلوبها.
مكتبة الغورية
يواصل «محفوظ»: جاء وقت عملت فيه في مكتبة تابعة للوزارة بقبة الغوري وكان مديرها اسمه «السندوبي». كانت تطل على الغورية، حيث المشهد من الشرفة يجعلني في نشوة، وكنت أتمنى أن أبقى فيها حتى أصل إلى المعاش.
وأنا الذي اخترت المكتبة بعيداً عن مكتب الوزير الجديد، فتصور مدير المستخدمين أن اختياري للعمل في المكتبة كان احتجاجاً مني، ولم يكن الأمر كذلك.
كنت سعيداً بالعمل في المكتبة فمن يعمل فيها لا يتذكره أحد بعدها أبداً، وتكون بذلك فرصة لي لكي أعمل وسط الكتب، مثل «السندوبي» الذي لم يكن يفعل شيئاً سوى القراءة والتأليف، وأظنه أصدر شرحاً وتحقيقاً لديوان المتنبي.
لكن لم يمض وقت طويل على هذه «النعمة» حتى عينني مدير الشئون الدينية الشيخ سيد زهران مديراً لمكتبه، وقال لي «نحن الوفديين لا نضطهد الآخرين». وكان الوفديون في وزارة الأوقاف يعتبرونني من الأحرار الدستوريين بسبب صلتي بالشيخ مصطفى عبد الرازق، بينما أنا وفدي.
ورغم استلهام «أديب نوبل» لشخصيات أعماله من أروقة الوزارة التي عمل بها إلا أنه كان يرى أن ذلك هو التصور الإيجابي للوظيفة في ظل ظروف المجتمع الذي يعيش فيه قائلاً: «من المستحيل أن يتفرغ الأديب في مصر، ولو كنا في أوروبا، وصدر لي كتاب متميز لتغيرت حياتي، وكنت استقلت من الوظيفة وتفرغت للأدب، لأن الكتاب المتميز يحقق إيراداً يكفي لاتخاذ مثل هذه الخطوة».