راتبك لا يكفيك.. هذه حلول نجيب محفوظ لمواجهة ارتفاع الأسعار
اقتربت روايات نجيب محفوظ من الموظفين، ونقلت معاناتهم اليومية مع أزماتهم الاقتصادية التي واجهوها بما تحمله من تفاصيل ارتفاع الأسعار وعدم قدرتهم على مجابهتها نتيجة قلة دخولهم.
ولأن مرتبات الحكومة لا تلبي الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية، بحث الموظفون داخل روايات «أديب نوبل» عن بدائل للمساعدة على الاستمرار في الحياة والتوافق مع الغلاء المستمر. الناقد الأدبي مصطفى بيومي استعرض هذه البدائل في كتابه «الوظيفة والموظفون في علم نجيب محفوظ».
الزواج من موظفة
عندما يصبح عمل المرأة متاحاً ومقبولاً، بعد أن كان مداناً ومستهجناً، فإن التطلع إلى الزواج من موظفة يمثل مطلباً جوهرياً لمواجهة الحياة. في رواية «المرايا» قرب نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، يقول عباس فوزي ساخراً: «كما قد توجد منحرفة بين ستات البيوت، فقد توجد مستقيمة بين الموظفات».
صدرت «المرايا» عام 1971 ورسم محفوظ خلالها صورة لعدد من الشخصيات الواقعية والممثلة لكل طوائف المجتمع وفلسفة كل منها لتحقيق أهدافها.
وخلال المرحلة التاريخية نفسها، تضع خديجة أحمد عبد الجواد في رواية «السكرية» قانوناً صارماً متعنتاً: «الموظفة لا يمكن أن تكون زوجة صالحة».
وتمثل «السكرية» التي صدرت عام 1957الجزء الأخير من ثلاثية محفوظ، مع «بين القصرين» و«قصر الشوق».
تتراجع هذه القيم والأحكام التقليدية المتزمتة، وبعد عقدين لا أكثر في مطلع الستينيات، يقول سرحان البحيري في «ميرامار»–: «إذا لم تكن العروس موظفة على الأقل، فكيف أفتح بيتاً جديداً يستحق هذا الاسم في زماننا المتوحش العسير».
صدرت الرواية عام 1967، وتدور أحداثها داخل بنسيون بالإسكندرية، وتحولت إلى فيلم سينمائي بنفس الإسم من بطولة شادية ويوسف شعبان وإخراج كمال الشيخ.
العمل الحر
فضلاً عن ضرورة الزواج من موظفة، يفكر «سرحان» أيضاً في العمل الحر والمشاريع التجارية، فيقول للإقطاعي القديم طلبة مرزوق: «من العبث أن يعتمد شاب مثلي على مرتب وظيفته»، فيتساءل طلبة «وما حيلته في ذلك؟»، يخفض «سرحان» صوته كأنما يبوح بسر، ويقول، «مشروع تجاري. هذا ما أفكر فيه».
ورغم أن اللوائح التي تحكم الموظفين تحول دون عملهم بالتجارة، لكن الأمر لا يمثل مشكلة عند «سرحان»، فهو يضيف «على المشروع أن يبقى سراً من الأسرار». لا يملك «سرحان» ما ينفذ به المشروع التجاري الذي يحقق له التوازن الاقتصادي، ويكن البديل المتاح هو الشروع في الاختلاس.
الهجرة
إذا لم يكن العمل التجاري متاحاً أو ممكناً، فإن حلم الهجرة إلى الخارج، حيث العمل الأفضل في المردود المادي يراود كثيراً من الموظفين. جذور هذا النمط من التفكير تظهر عند إسماعيل لطيف في أوائل الأربعينيات، في «السكرية»، فهو يقرر السفر للعمل في العراق: «مرتب ضخم لا أتخيل أن أناله يوماً هنا، ثم إن العراق بلد عربي لا يختلف عن مصر كثيراً».
وقرب نهاية الستينيات يعلق زين العابدين عبدالله في رواية «الكرنك» على حماس وطني يظهره واحد من الشباب المترددين على المقهى، فيقول بخبرته كموظف منحرف: «سيجد نفسه بعد عامين أو ثلاثة موظفاً بمبلغ زهيد، فيختار بين أمرين لا ثالث لهما، الانحراف أو الهجرة».
أحداث رواية «الكرنك» تدور حول الاستبداد السياسي في الفترة من هزيمة 1967 حتى حرب أكتوبر 1973، وتحولت عام 1975 إلى فيلم بطولة نور الشريف وسعاد حسني وإخراج على بدرخان.
أما علي عبدالستار في قصة «الحب فوق هضبة الهرم»، فواحد من جيل السبعينيات التعيس، يراوده حلم الهجرة والعمل في بلد عربي، كأداة للخروج من الأزمة المالية الطاحنة، لكنه لا يملك المهارات والمؤهلات المطلوبة «لست من أصحاب المهن المطلوبة ولا من أهل الحرف».
صدرت «الحب فوق هضبة الهرم» ضمن المجموعة القصصية عام 1979، وتحولت لفيلم سينمائي بنفس الاسم عام 1986 من إخراج عاطف الطيب وبطولة أحمد زكي وآثار الحكيم.
الأزمة نفسها يواجهها خريج كلية الحقوق عبدالفتاح إبراهيم الدراجي في قصة «من فضلك وإحسانك»، فلا أمل له العمل في بلد عربي: «تمثل له الخارج في صورة منارة تشع نوراً من بعيد».
رغم الانتظار الطويل، ووعود الأب الذي يعرف كثيراً من أصحاب النفوذ، فإن حلم السفر لا يتحقق، وتستمر معاناة كاتب النيابة الشاب، المسكون باليأس والإحباط. القصة صدرت ضمن مجموعة «رأيت فيما يرى النائم» وتحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج ناجي أنجلو وبطولة هشام سليم وفايزة كمال وصلاح نظمي.
الرشوة
ويظهر الانحراف والفساد والرشوة، كأحد الحلول التي يلجأ إليها الموظفون في روايات أديب نوبل للتغلب لمواجهة أزماتهم الاقتصادية. في «المرايا» يتقدم المترجم عبد الرحمن شعبان باقتراح لانتشال الموظف المطحون فتحي أنيس من أزمته المزمنة: «أسعفوه بوظيفة يمكن أن تدر عليه رشوة». ما يشير إلى أن الأمر أقرب إلى العلنية، والوظائف لتي تتيح الحصول على الرشاوى معروفة، ويحتكرها أصحاب الوساطات.
وفي نفس الرواية كان طنطاوي إسماعيل موظفاً مخلصاً أميناً يعمل مفتشاً بالحسابات، وأثارت أمانته موجة من الرعب في قلوب الكتبة والمراجعين الذين كانوا يعتمدون على الرشاوى في مواجهة احتياجاتهم الحياتية «كانوا يعملون من خلال نظام محكم تعاوني يقوم أساسه على الرشوة والهدية، فانفجر الرجل في أوساطهم كالقنبلة فاتكاً بمصادر رزقهم الحقيقية».
انتقاماً من هذه الأمانة الاستثنائية تُدبر مؤامرة متقنة تفضي بالرجل إلى الفصل من الوظيفة، وعندما تتبين الحقيقة بعد سنوات، يُعاد «طنطاوي» إلى الخدمة في إدارة غير مالية، تجنباً لأي أذى قد يلحق به أو بالآخرين.
ولكن ما الذي يملكه العاجزون عن الهجرة والبعيدون عن الوظائف التي تسنح معها فرصة الرشوة؟ لا مهرب لهم إلا الاستسلام اليائس، أو التفنن في البحث عن بدائل غير تقليدية.
الاقتراض
في «المرايا» يبتكر الساعي صقر المنوفي أسلوباً جديداً، فهو يبيع ما يرثه عن أمه من حلى ونحاس، ويتجمع لديه مبلغ من المال «راح يستثمره في إقراض الموظفين بربح فاحش، وهو نشاط غريب بالنسبة لرجل مسلم من أهل البلد الفقراء وما أكثرهم، ولكنه أقبل عليه وتمادى فيه حتى النهاية، وعرف بذلك في أوساط الموظفين الفقراء وما أكثرهم، فأقبلوا عليه بنهم، وأصبح بذلك مركزاً لحركة مصرفية سرية ونمت نقوده وتراكمت».
المثير للدهشة أن «صقر» يتمسك بوظيفته المتواضعة، حيث يقوم على خدمة موظفين يعتبر سيداً لهم من الناحية الاقتصادية.