رئيس التحرير أحمد متولي
 الغارات في أفلام نجيب محفوظ.. صفارة تعلن عما يحدث في الظلام

الغارات في أفلام نجيب محفوظ.. صفارة تعلن عما يحدث في الظلام

تنطلق إشارة إنذار في هيئة صوت صفير متقطع ومتتابع بهدف التحذير من بداية حدوث غارة جوية من قبل العدو الصهيوني، فتتوقف حركة السيارات ويهرول الناس للاختباء في مكان آمن بدور أرضي إلى أن يسمعوا صفارة متواصلة ترمز إلى انتهاء الغارة.

هكذا كان الحال في مصر منذ إعلان العدوان الثلاثي عليها عام 1956، الذي عبّر عنه أمير الرواية العربية نجيب محفوظ، بداخل روايات تحولت إلى أفلام سينمائية لتكون بمثابة تأريخ تلك الفترة من تاريخ مصر. 

ولم يكتف محفوظ، بالإشارة إلى الغارات فقط، ليأخذه قلمه إلى أبعاد جديدة صورت حكايات وقصص أخرى تدور في الظلام وقت حدوث الغارات.

وفاة «حميدة»

تنطلق صفارة الإنذار لتحذر من وقوع غارة جوية، فيهرول الناس في حركة سريعة بهدف الاختباء وتُطفأ الأنوار، إلى أن يطلق عسكري إنجليزي رصاصه من مسدسه، فتصيب عن طريق الخطأ «حميدة»، والتي تجسدها الفنانة شادية، ليتجمع حولها حبيبها عباس (صلاح قابيل)، وصديقه وجارهما حسين (حسن يوسف)، وفرج (يوسف شعبان)، الذي تعمل لديه في الكباريه، فتستغل الراقصة شكرية (سامية جمال) الفرصة كي تذهب مسرعة باتجاه العسكري الإنجليزي وتمسك بمسدسه وتطلق منه رصاصة موجهة مباشرة إلى «فرج» الذي عانت في حياتها بشدة بسببه.

وعلى أصوات رجال تصيح «طفي النور»، يحمل كلا من عباس وحسين «حميدة»، مهرولين خارج الكباريه، متجهين إلى «زقاق المدق» مسكنهم الأصلي، لتسقط «حميدة» قتيلة بين ذراعيهما في الشارع عقب سماع صفير يرمز إلى انتهاء الغارة، وتضاء الأنوار لتكتشف والدة حميدة مقتل ابنتها، وتصيبها حالة من الدهشة والإنكار، لتبدأ الصراخ والبكاء، وتنتهي أحداث فيلم «زقاق المدق» الذي أنتج عام 1963.

ظهرت عبقرية مخرج الفيلم حسن الإمام، في ترجمة قصة أمير الرواية العربية وسيناريو وحوار سعد الدين وهبة أمام الكاميرا في ذلك المشهد، باستخدام زوايا مائلة توحي بتخبط الرؤية وتدل على اقتراب النهاية، ليصبح مشهد النهاية هو الأهم بالفيلم «الماستر سين»، ملقيا الضوء على إسقاطات «محفوظ» الرمزية التي استغلت الظلام المترتب على اندلاع غارة جوية لتعبر عن جرائم قتل ونهاية حيوات ومآسي أحداث فراق أبدي تحدث جميعها في ظل ذلك الظلام الداكن.

غارات السكاكيني وخان الخليلي

تبدأ أحداث فيلم «خان الخليلي» الذي أنتج عام 1966، بصوت صفارة تحذر بقدوم غارة؛ ما يثير استياء سكان حي السكاكيني الذين يهرولون بدورهم ويسرعون للاختباء بالدور الأرضي من بنايتهم، والتي بدأ الهجوم يشتد عليها.

يتكرر الأمر مرة أخرى، لتنفجر قنبلة بجوار المخبأ ويقسم الوالد، الذي يجسده الفنان عبد الوارث عسر، ألا يبيت مرة أخرى بداخل المنزل، وتكون تلك هي بداية انتقال الأسرة للسكن في حي خان الخليلي.

لا يسلم خان الخليلي من الغارات بدوره، فتنطلق صفارة الإنذار الخاصة بالغارة الجوية مرة أخرى، ليفزع سكان المنزل ويهرولوا إلى الدور الأرضي من أجل الانتظار حتى تنتهي الغارة، ويتكرر الأمر ذلك عدة مرات أخرى.

ومن خلال السيناريو والحوار الذي استنبطه محمد مصطفى سامي من مؤلف قصة الفيلم «محفوظ»، صوّر مخرج الفيلم عاطف سالم شكاوى المواطنين الجالسين بداخل المخبأ بسبب تكرار الغارات، فتقول واحدة منهم: «داهية تقطع الغارات وسنين الغارات»، بينما يقول أحدهم في يأس: «والله لولا الأطفال ما أنزل من البيت». ذلك بجانب معاناتهم من الزحام وعدم وجود محلات كافية للجلوس في المخبأ.

كما ألقى «سالم» الضوء على الطرق التي يستعين بها المواطنون من أجل مرور الوقت؛ بين شرب الشيشة والاستماع إلى الموسيقى والضحك. بالإضافة إلى قصص عن تكوين الصداقات والفراق والحب والتعبير عن الإعجاب التي تولد جميعها في الظلام بداخل المخبأ.

سقوط الأقنعة في الخريف

«عيسى الدباغ» يعاني من صراع داخلي يبلغ ذروته عقب قيام ثورة يوليو عام 1952، والتي أدت بدورها إلى انتهاء الدور السياسي لحزب الوفد الذي ينتمي إليه، وفقدانه لمنصبه السياسي إثر حركة التطهير، وذلك في الوقت الذي كان يتوقع فيه حصوله على ترقية في عمله، فيبدأ يشعر كأنه منفي بداخل المجتمع، منبوذ من الواقع، متمسك بالماضي الذي ولى عهده، بينما يصراع رغبة كامنة بداخله حتى يصبح جزءا من العالم يتغير من حوله.

يجلس «الدباغ» مع مجموعة من الباشاوات وأصحاب المناصب المهمة في البلد بداخل قصر كبير يمتلكه أحدهم، لينطلق فجأة صفير يحذر من موقوع غارة جوية، فيسرع الرجال من حوله يطفئون أنوار القصر، ووسط الظلام، تسقط أقنعة الجميع أمامه ليكتشف نوايا الباشا الذي يستضيفهم بداخل قصره، فيدرك أنه لا يهمه مستقبل البلد السياسي بقدر اهتمامه بعودة رجال السياسة القدامى ليحتلوا مناصب مهمة تعود عليهم بالنفع الاجتماعي والاقتصادي تماما كما كان حالهم في السابق، حتى لو كان ذلك على حساب التنازل عن جزء من الأرض المصرية لصالح إسرائيل.

وفي تلك اللحظة، ينفعل «الدباغ» قائلا: أنا أرفض الكلام ده.. إحنا قاعدين هنا نتكلم في الضلمة والبلد بتنضرب.. مصر يا باشا بتنضرب وسعادتك بتفكر في التسليم.

وباستخدام الإضاءة الخافتة واللقطات القريبة جدا لفم الباشا الذي يحتضن سيجارة ينبعث منها الدخان وينتشر بدوره في الأجواء، أبدع المخرج حسام الدين مصطفى في خلق حالة من التناقض بداخل أحد أهم مشاهد فيلم السمان والخريف، الذي أنتج عام 1967، وشارك في كتابة السيناريو والحوار الخاص به مع «محفوظ» أحمد عباس صالح، فبالرغم من الظلام الدامس الذي حل على المكان إثر وقوع الغارة الجوية، إلى أنه ساعد على تسليط الضوء على الحقائق الخفية واندلاع صرخة «الدباغ» رافضا للزيف والخيانة التي اكتشفها للتو، ليطغى الوجه الوطني الحقيقي لـ«الدباغ» على ذلك المتمسك بذيول الماضي وهوس المناصب مرتفعة الشأن.

مزيد من الـ«ثرثرة» فوق النيل

يسمع حارس العوامة صوت صفارة الإنذار التي تنبأ بحدوث غارة جوية، فينطلق مسرعا داخل العوامة ليحذر المقيمين بداخلها وسط صياح نابع من أكثر من صوت «طفي النور ياللي فوق.. طفي النور»، ليفاجأ بثنائيات منفصلة عن العالم غارقة في القبلات، لا تعبأ بما يدور خارج محيط العوامة التي يجلسون فيها، فيقول في إحباط: «يا بهوات فيه غارة»، فلا يلقى استجابة من أحد، ليضغط بذاته زر إطفاء الأنوار وينصرف في هدوء.

وبعد انصراف الحارس، يتفوه المقيميون بداخل العوامة بالمزيد من الكلمات التي تؤكد عدم اكتراثهم بالحياة، وتوحي باللا مبالاة والاستهتار وتغيب العقل التام عن الواقع، فيقول أحدهم: «جرى إيه؟ هي الحرب لسة ماخلصتش ولا إيه؟»، فتجيبه المرأة التي يحتضنها: «الجماعة دول مزعجين.. ما قدامهم طول النهار.. ما تحلالهمش الغارة إلا دلوقتي».

بينما عقب تناوله للحشيش، يحدث «أنيس»، الذي يجسده الفنان عماد حمدي، ذاته، قائلا: «أكيد دي غارات وهمية بيعملوها علشان يقولوا طفوا النور، ولما النور ينطفي الناس تنبسط، ولما النور ينطفي، كل واحد يعمل اللي على كيفه.. اللي عايز يحب واللي عايز ياخد رشوة في الدرا واللي عايز يختلس».

نجحت الجمل الحوارية لفيلم «ثرثرة فوق النيل» من إنتاج عام 1971، والتي استلهمها السيناريست ممدوح الليثي من قصة «محفوظ»، في توضيح بُعد جديد للغارات الجوية، وما قد تحدثه بداخل النفوس؛ ففي الوقت الذي تنتفض فيه القلوب عند سماع صفارة الإنذار، هناك صنف من البشر لا يهتمون سوى بالحشيش الذي يدعم شعورهم باللا مبالاة تجاه أي شئ على الإطلاق، وكأنهم لا يملكون قلبا ينتفض أو عقلا يفكر بالمرة، وهو ما أبدع في صنعه مخرج الفيلم حسين كمال من خلال استخدامه للإضاءة وزوايا التصوير.

أماني عماد

أماني عماد

صحفية مهتمة بمجال الفنون والثقافة.. تهوى الكتابة عن السينما والأفلام، بجانب كتابة سيناريوهات أفلام واسكتشات وقصص قصيرة.