رئيس التحرير أحمد متولي
 ثلاثية غرناطة.. مأساة مسلمي الأندلس التي هزمت أفلام الرعب

ثلاثية غرناطة.. مأساة مسلمي الأندلس التي هزمت أفلام الرعب

في عام 1491، سقطت مملكة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس بعدما ظلت صامدة لقرنين من الزمان أمام الأسبان.

كتب المؤرخون الكثير عن مأساة آخر مسلمي الأندلس، ومنها خرجت واحدة من أنجح الأعمال التاريخية المعاصرة، رواية «ثلاثية غرناطة» للكاتبة الراحلة رضوى عاشور.

سقوط غرناطة

نتيجة بحث الصور عن سقوط غرناطة
تسليم غرناطة

في غرناطة وسط هذه الأحداث العاصفة، نقابل الأهالي الذين شهدوا الاستسلام والذل، حين تعهد آخر ملوك المسلمين «أبو عبد الله محمد الصغير» بتسليم البلاد للأسبان خلال ستين يومًا.

الشيخ «أبو جعفر الوراق» صاحب دكان نسخ وتجليد الكتب، رأى فتاة جميلة عارية تغرق في النهر، فأدرك أنها رؤية وإشارة بمصيبة مقبلة.. غرناطة الجميلة كصبية فاتنة ستضيع تحت الاحتلال.

 في نفس الوقت داخل أحد الحمامات العامة للرجال، يساعد الغلام الصغير «سعد» سيده في الاستحمام، وحين تأتي سيرة الاحتلال والأسبان، يأمر السيد «سعد» أن يتوقف عن تنظيف جسده ويقول

- غرناطة ساقطة لا محالة

يسمع صاحب الحمام الكلام فيجري وراء الرجل بالعصا صارخًا

- أمك هي الساقطة وليست غرناطة يا كلب

لكن غرناطة سقطت بالفعل، وافتضح أمر ملك المسلمين الذي سلم مفاتيح الأندلس للأسبان مقابل 30 جنيها قشتاليا (أسباني) وضمان حق قصوره وممتلكات أهل بيته.

حصل المسلمون على معاهدة بينهم وبين الأسبان تضمن معاملتهم بشرف، واحترام دينهم وحرية أداء شعائرهم والاحتفاظ بأملاكهم، لكن هل سينفذ الأسبان ما عاهدوا عليه؟

بداية الاضطهاد

استطاع «سعد» الصبي أن يجد عملاً في دكان «أبو جعفر الوراق» بعدما تركه سيده دون عمل، وهناك يقابل زميله «نعيم» المغامر خفيف الظل، ويتعرف باقي أسرة أبو جعفر خاصة حفيديه.

الحفيد الأول لأبو جعفر هو «حسن» الهادئ الذي يفضل الابتعاد عن المشاكل، والحفيدة الثانية هي «سليمة» التي ورثت من جدها عشق الكتب، فهي لا تحب أعمال البيت والطبخ بقدر حبها للقراءة والمطالعة.

المشكلة الآن أن الأسبان يجمعون كتب المسلمين، فهم يريدون القضاء على الثقافة العربية نفسها، لذا يسرع أبو جعفر بحمل كتبه القيمة إلى بيت آخر حتى تكون في أمان.

بدأت الغمة في غرناطة مع تغيير الأمراء دينهم إلى المسيحية، والمساجد تصير كنائس، وحين رأى أبو جعفر الوراق حرق الكتب والمصاحف مات بحسرته تاركًا الأسرة في وقت صعب.

حب وسط المآسي

صورة ذات صلة
فلم يجد سعد في النهاية سوى ظبية رقيقة تشبه الغزالة

يقع سعد في حب سليمة مباشرة، فتاة الكتب التي لا تشبه باقي الفتيات، يطلب يدها للزواج فيلقى معارضة من الأهل، فكيف يطلب يد حفيدة صاحب الدكان الذي عمل به؟، يأتي الفرج من سليمة نفسها التي تصر على الزواج منه.

حين أراد سعد أن يحضر هدية إلى زوجته، زار سوق الحيوانات الأليفة باحثًا في حيرة عن الحيوان المناسب، فلم يجد في النهاية سوى ظبية رقيقة تشبه الغزالة جعلت حماته تصفه بالجنون، لكن سليمة أعجبت بالظبية وراحت ترسمها.

على الجانب الآخر، أحب حسن فتاة غجرية مرحة خفيفة الروح اسمها «مريمة» تعمل في العروض الراقصة مع أهلها، وأصر أن يتزوجها رغم اعتراض أهله على مهنة مريمة ونحافتها الشديدة.

الصديق الثالث نعيم لم يجد من يحبه رغم إعجابه بكل فتاة يراها، وبدأ فصلاً جديدًا في القصة حين ذهب إلى أمريكا التي اكتشفها الأوروبيون وأطلقوا عليها «العالم الجديد».

رعب الاضهاد

أدرك المسلمون أن المعاهدة التي أبرمها ملكهم مع الأسبان مجرد حبر على ورق، كيف لا وقد بدأ التنصير الجبري للأهالي؟، ومن يرفض تغيير دينه يُقتل فورًا، وعلى المتنصرين إقامة الشعائر الدينية في العلن وإلا لاحقتهم الشكوك.

صدرت الأوامر الأخرى بمنع النساء من تغطية رؤوسهن في الشارع، ومنع ختان الرجال والذبح في البيوت، كما أغلق الأسبان الحمامات العامة، وأمروا بتسليم كل الكتب العربية مع استبدال لغة الحديث بالقشتالية (الإسبانية وقتها).

أراد «حسن» كالعادة أن يحافظ على استقرار الأسرة وسلامتها، فرضخ مع الكثيرين إلى الأوامر الجديدة، أعلنت الأسرة تغيير ديانتها وصارت أسماؤهم كلها أعجمية.

الوحيد الذي رفض الأمر كان سعد، اختلف مع شقيق زوجته حسن وترك الأسرة وانضم للمجاهدين المسلمين مدة طويلة، لم يعد فيها لزوجته سليمة إلا مرة واحدة فقط رزقتها بمولودة.

مأساة «سليمة»

نتيجة بحث الصور عن حرق الساحرات

سارت الحياة في بيت أبي جعفر كما هي وسط الصعاب، سليمة تدرس في الكتب باجتهاد وحب، مريمة تطبخ وتعمل في السوق وتصرف عن الأسرة الأذى بحكمة وذكاء، حتى حلّت المصيبة الأعظم على الجميع.

«سليمة» درست علم الأعشاب من الكتب، وصارت خبيرة بالبذور والنباتات، تخلطها ببراعة لتصنع منها الأدوية والمحاليل العلاجية، لذا حامت حولها الشكوك واستدعتها الهيئة الخاصة بمطاردة السحرة والمارقين من الدين، الهيئة المعروفة بـ«محاكم التفتيش».

مثلت سليمة أمام القضاة في محاكم التفتيش تجيب عن الأسئلة بثبات، هي متأكدة من براءة ساحتها، فالكتب كلها في أمان تحافظ عليها مريمة، لكن القضاة عرضوا عليها رسمة قديمة للظبية التي أهداها سعد إليها.

لم تنكر سليمة أن الرسمة لها والقضاة استغلوا هذا الاعتراف زاعمين أن الرسمة ليست ظبية وإنما لتيس، والتيس في عقيدتهم ليس إلا الشيطان متجسدًا في حيوان، واتهموا سليمة أنها تعبد التيس الذي علمها خلط الأعشاب.

زاد القضاة في التهمة وقالوا إن سليمة تعاشر التيس (الشيطان)، وأنها ساحرة محنكة، لذا فليس لها جزاء إلا الموت حرقًا، وانتهى الأمر وسليمة تقف وسط الحطب والنيران، تحترق كأنها كتابا آخرا عربيا مما حرقه الأسبان كثيرًا من قبل.

الهجرة أم البقاء؟

عاد نعيم إلى غرناطة ولم تختلف تجربته كثيرًا في أمريكا عما حصل لصديقه «حسن» الذي احترقت زوجته، فقد أحب نعيم امرأة من الهنود الحمر الذين أفناهم الأوروبيون جميعًا كي يفوزوا بالأرض الجديدة، وماتت حبيبة نعيم معهم بالرصاص.

ظل اضطهاد المسلمين في غرناطة كما هو، ولد جيل جديد وصارت «مريمة» امرأة عجوز تنتظر النهاية، معها حفيدها «علي» آخر من تبقى من العائلة وكانت مصيبته في الحب من نوع آخر، حين تنصرت حبيبته وتزوجت بنصراني آخر.

الجد والوالدان والحفيد، الجميع اشتركوا في المأساة بخسارة الحبيب أو الصديق، حتى جاء القرار الصارم بترحيل المسلمين جميعًا من غرناطة، وصار «علي» الحفيد الأخير وحيدًا على الشاطئ منتظرًا نداء السفينة ولكن هكذا كان موقفه كما تحكيه المؤلفة:

«قام عليّ، أدار ظهره للبحر وأسرع الخطو ثم هرول ثم ركض مبتعدًا عن الشاطئ والصخب والزحام. التفت وراءه فأيقن أن أحدًا لم يتبعه، فعاد يمشي بثبات وهدوء، يتوغل في الأرض، يتمتم: لا وحشة في قبر مريمة»

الثلاثية.. تاريخ ونجاح

سميت «ثلاثية غرناطة» بهذا الاسم لأنها تتكون من ثلاثة أجزاء متتابعة (غرناطة – مريمة – الرحيل) وصدر الجزء الأول في معرض القاهرة للكتاب عام 1994 ليحصل على جائزة أفضل رواية في المعرض.

بعدها تتابعت طبعات الرواية حتى صارت ضمن الأعمال الأعلى مبيعًا، مدحها كثيرون من نقاد الأدب وترجمت للإنجليزية.. قال عنها أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن بجامعة لندن صبري حافظ:

 «تدخل بكتابة المرأة إلى مجال الرواية التاريخية ثلاثية ضافية، بعد أن ظلت ثلاثية نجيب محفوظ عملاً فريداً في هذا المضمار لسنوات طويلة»

وتعتبر المؤلفة الراحلة «رضوى عاشور» من أبرز الأصوات النسائية في الأدب العربي المعاصر، خاصة أنها سلكت طريقًا مختلفًا عن الأديبات الأخريات، فكتبت في قضايا مهمة مثل التاريخ والقضية الفلسطينية.

محمود حافظ

محمود حافظ

روائي وصحفي، مهتم بالسينما والأدب ومزجهما بالتاريخ والفلسفة