رئيس التحرير أحمد متولي
 هكذا عاش محمد نجيب سنوات ما بعد العزل.. 29 عاما في تربية القطط والكلاب وفقدان الأبناء

هكذا عاش محمد نجيب سنوات ما بعد العزل.. 29 عاما في تربية القطط والكلاب وفقدان الأبناء

29 سنة قضاها محمد نجيب الرئيس الأسبق لمصر في فيلا زينب الوكيل بالمرج بعد إعفائه من منصبه كريس للجمهورية في 14 نوفمبر 1954، وصفها في مذكراته بأنها كانت مليئة بالعذابات وخيبات الأمل المتتالية، فضلاً عن الإنكسارات التي طالته في أبنائه. «شبابيك» ينقل على لسان الرئيس الراحل كيف عاش في إقامته الجبرية كما رواها في مذكراته التي منحها عنوان «كنت رئيساً لمصر».

منزل مهجور وحياة صعبة

يقول «نجيب» في مذكراته: بعد إعفائي من منصب رئيس الجمهورية، خرجت من مكتبي في هدوء وصمت، حاملاً المصحف إلى معتقل المرج، إلى فيلا زينب الوكيل حرم مصطفى النحاس باشا التي أعدتها لتكون استراحة ريفية لها.

وفي ذلك اليوم قال لي عبد الحكيم عامر «إن إقامتك في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام، تعود بعدها إلى بيتك». ولكني من يوم دخلت هذه الفيلا، وحتى أكتوبر 1983 لم أتركها، وذلك عندما طلب ورثة زينب الوكيل أن تعود إليهم، ورفعوا الأمر للقضاء، واستجاب القضاء لهم، فنُقلت من الفيلا التي عشت فيها كل هذه الأعوام، وحفظت كل ركن وكل شبر فيها، إلى شقة أمر الرئيس حسني مبارك بتخصيصها لي.

رفضت أن أشكو من المنزل المهجور، والحياة اليومية الصعبة، والحصار اللا إنساني الذي وجدت نفسي فيه، حتى لا تتحول هذه الشكوى إلى دعاية مرضية رخيصة على يد وزير الإرشاد صلاح سالم. وتحملت كل هذا في صبر وقوة. وكانت زوجتي تقول لي دائماً كلما ضججت مما حولي: «تصور أن حريقاً شب في منزلنا والتهم كل شيء.. العوض على الله». وقبلت الأمر الواقع وبدأت رحلة التكيف مع الواقع الجديد.

عائشة محمد لبيب زوجة الرئيس الأسبق محمد نجيب


فاروق وعلي ويوسف

شرب ابني «فاروق» من نفس الكأس الذي شربت منه. استفزه أحد المخبرين الذي كانوا يتابعونه ويسيرون وراءه، وقال له «أبوك لم يكن أكثر من خيال مآتة.. ديكور.. واجهة لا أكثر ولا أقل»، فلم يتحمل «فاروق» هذا الكلام علىّ، وضربه، ويومها لم يعد إلى البيت، ولم ينم فيه.

قُبض عليه واتهموه بالاعتداء على النظام وسبه، ودخل ليمان طره مع المعتقلين السياسيين، وبقي هناك خمسة شهور ونصف، خرج بعدها محطماً ومنهاراً ومريضاً بالقلب، وبعد فترة قليلة مات من القسوة والغم والقرف.

وقبل ذلك بعام واحد، قُتل ابني الثاني «علي» في ألمانيا الغربية. كان يدرس هناك، وكان زعيماً طلابياً له نشاط واسع ضد اليهود. كان يقيم المهرجانات التي يدافع فيها عن مصر وعن الثورة وعن حق الفلسطينيين، ولم يعجب هذا بالطبع رجال المخابرات المصرية الذين رأوا في نشاطه إحياء للكلام عن أبيه.

وفي ليلة ما كان يوصل زميلاً له بعد أن انتهيا من استذكار دروسهما، فإذا بعربة جيب بها ثلاثة رجال وامرأة تهجم عليه وتحاول قتله، وعندما هرب، جرت وراءه السيارة، وحشرته بينها وبين الحائط، ونزل الرجال الثلاث وأخذوا يضربونه حتى خارت قواه ونزف حتى الموت. نُقل جثمانه من ألمانيا إلى مصر، ودُفن دون أن يسمح لي باستقبال نعشه، أو قراءة الفاتحة على قبره.

أما ابني «يوسف»، فلم يكن رغم بعده عن النشاط العام، أكثر حظاً من أخويه، فبعد أن تخرج من معهد العلوم اللاسلكية عمل في إحدى شركات الدولة، ولكنهم لم يتركوه في حاله. افتعل أحد أقارب شمس بدران مشاجرة معه، انتهت بإصدار قرار جمهوري بفصله والتخلص منه.

ولم يجد «يوسف» ما يفعل سوى أن يعمل على سيارة أجرة في الضواحي، وبعد ذلك عمل في شركة المقاولون العرب سائقاً في الصباح، وعلى تاكسي اشتراه بالتقسيط في المساء.

محمد نجيب مع أبنائه

نقاط الحراسة

كان ممنوعاً علينا أن نستقبل أحداً، وبعد سنوات طويلة سمحوا لنا بذلك، لكن بشرط أن يجلس معنا ضابط يسجل كل ما يُقال. وكانت إحدى نقاط الحراسة تقع على السطح، وكان لابد للجنود والضباط ليصلوا إليها أن يمروا بحجرة نومي. وكان من الطبيعي ومن المعتاد أن يفزع الجنود أفراد أسرتي بإطلاق الرصاص في الهواء، في منتصف الليل، وفي الفجر، وفي أي وقت يتصورون أنه مناسب لراحتنا.

وكانوا يؤخرون عربة نقل الأولاد إلى المدارس، فيصلون إليها متأخرين، ولا تصل العربة إليهم في المدرسة إلا بعد مدة طويلة من انصراف كل من في المدرسة، فيعودون إلى المنزل مرهقين، غير قادرين على المذاكرة، وكل ما يفعلونه هو أن يأكلوا ويناموا.

وكان على كل من في البيت ألا يخرج منه من الغروب حتى الشروق، وكان علينا أن نغلق النوافذ في عز الصيف، تجنباً للصداع الذي يسببه عمداً الجنود والضباط، وهرباً من جحافل الناموس التي تملأ المنطقة. ولم تفلح الشكوى التي اضطررت إليها بسبب الأولاد إلى عبد الحكيم عامر، وإلى غيره. وقد كتبت لـ«عامر» عشرات الخطابات بلا جدوى.


القطط والكلاب

لقد قنعت بإقامتي في معتقل المرج، وتآلفت مع كل ما فيها. قرأت الكثير من الكتب في كل فروع المعرفة من الطب إلى التاريخ، ومن علم الكف إلى علم الفراسة، ومن علوم الأحياء إلى الجيولوجيا، وتعلمت لغات أجنبية كنت لا أعرفها، حتى اللغة العبرية درستها، وانشغلت بتربية القطط والكلاب.

وأنا اعتبر القطط والكلاب أكثر وفاء من البشر، حتى أنني نجحت معها في تغيير طبيعتها. إننى لا زلت احتفظ بصورة نادرة لكلبة من كلابي، ترقد على جنبها وترضع منها قطة فقدت أمها. إن هذه الصورة دليل على أن العداء التقليدي والطبيعي بين الحيوانات يمكن أن يذوب ويتلاشى بالحب والرعاية، وهذه الصورة دليل على أن الحيوانات أكثر ليونة ورقة في التخلص من شراستها، من البشر.

إنني لم أنجح في تطبيق شعار «الاتحاد والنظام والعمل̇» الذي رفعته بعد الثورة مباشرة إلا على القطط والكلاب التي أربيها، نجحت في الاتحاد بين القطط والكلاب، وفرضت النظام عليها. الأكل بمواعيد، والنوم بمواعيد. نجحت أن يكون العمل هدفاً لها. كل منها حسب الوظيفة المناسبة؛ الكلاب للحراسة، والقطط لتنظيف البيت من الفئران والحشرات.

خبر وفاتي

لقد كان هؤلاء الأصدقاء الأوفياء سلوى وحدتي في سنوات الوحدة. تلك السنوات المرة التي وصلت فيها درجة الافتراء إلى حد إشاعة خبر وفاتي، وقد سمعت هذا الخبر بأذني من إذاعات العالم، وقرأته بعيني في كتاب «ضباط الجيش بين السياسة والمجتمع» وضعه كاتب إسرائيلي يدعى اليزير بيير، والذي قال «إن محمد نجيب توفي عام 1966».

ولا اعتقد أن أحداً في العالم قصد إذاعة أو كتابة مثل هذه الأخبار عن عمد أو عن مقصد، وكل ما في الأمر أن العزلة الصارمة التي فُرضت عليّ جعلت مثل هذه الأخبار، التي كانت بلا تكذيب في أغلب الأحيان، أمراً طبيعياً.

وبعد كل مرة كان ينتشر مثل هذا الخبر في العالم، كانت برقيات التعزية تصل إلى المرج، والطريف أنني كنت أقرأها بنفسي. إن كل المحاولات التي جرت لينساني العالم قد ذهبت هباءً.

المصدر

  • كتاب «كنت رئيساً لمصر». محمد نجيب.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية