هكذا أبدع عبد المنعم مدبولي في الارتجال فوق خشبة المسرح
عروض لفرق مسرحية بداخل شوادر حي باب الشعرية، تولّد شعور بالإعجاب الشديد بداخل قلب الطفل "عبد المنعم مدبولي" تجاه المشاهد التمثيلية المعروضة أمامه بدون أي ديكورات مساعدة، لتكون تلك بداية عشق مدبولي للمسرح.
فوق خشبة المسرح، صار "مدبولي" كالملك المتوج يؤلف نصوص مسرحية، ويمثل، ويخرج، ويطور من المسرح فيما يخص الديكورات والإضاءة والأسلوب الإخراجي، إلى أن أصبح له مدرسة خاصة به في الإخراج المسرحي معتمدة على التلقائية في الأداء؛ عرفت باسم "المدبوليزم"، وكان "الارتجال" بين تلك الأشياء التي خلقت لها طابع متميز. والارتجال لدى "مدبولي" غير مقرون بنكتة مقحمة على النص، أو لازمة كلامية أو حركية تثير سخرية الجمهور، بل هو ابتكار وسرعة بديهة وإبداع نابع من احترام شديد للنص المسرحي، جعله يستحق عن جدارة لقب "ساحر الارتجال".
فكيف أبدع مدبولي في فن الارتجال فوق خشبة المسرح؟
والله يعني
الأسطى تحسين المالح، العقل المدبر لخطة حصول صبيه "ناصح" على مبلغ من المال من قبل أحد الأثرياء.. هكذا ظهر "مدبولي" فوق خشبة المسرح أثناء تقديم عروض مسرحية نمرة 2 يكسب عام 1966.
يرتبك الأسطى تحسين عندما يصادف أن يحدث ما قد يكشف خطته، فيبدأ، وفقا للنص المسرحي، يقول جملته المشهورة التي تعطيه فرصة للتفكير في كذبة جديدة يخرج بها من مأزقه: "والله يعني"، ليلاحظ "مدبولي" إعجاب الجمهور بالجملة، فيبدأ بدوره الإطالة فيها وتكراراها أكثر من مرة من خلال الاستعانة بقدرته على ارتجال جمل جديدة على نفس المستوى الذي يدعم الإفيه، بل ويتفوق بارتجاله على النص المسرحي الأصلي، لتتنافس ضحكات الجمهور المتفرج على إصدار الضحكة الأعلى صوتا.
ذات البيجاما الحمرا
في مشهد من مسرحية "ذات البيجاما الحمرا" التي قدمت عروضها عام 1967، يظهر "مدبولي" مجسدا شخصية عم بطل المسرحية "أبو بكر عزت"، فيفاجأ بجمال زوجة ابن أخيه - كما يعتقد - ليسلم عليها في حماس، قائلا: أهلا يا بنتي أهلا، ويبدأ ارتجال حركة كوميدية تعبر عن تأثره بجمالها، فتراه بطلة المسرحية "نجوى سالم"، لتسأله بدورها: "انت بتعمل إيه"، فيجيب: "باخد شوية للبلد".
اسباجتي.. مطار الحب
لم يقتصر ارتجال "مدبولي" على الكلمات فقط، ولكنه أبدع في ابتكار حركات كوميدية تسببت في اتلقاء الجمهور المتفرج على ظهره إثر شدة الضحك، فعندما جسد شخصية "مصباح أبو النور" في مسرحية "مطار الحب" التي قدمت عروضها عام 1970 وأخرجها للمسرح "مدبولي" ذاته، كان من المفترض أن يجلس "أبو النور" يتناول المكرونة الاسباجتي في نهم، قائلا: "فرافيرو" كلما سمع بطل المسرحية "يوسف شعبان" يصيح "أنا جاي"، ولكنه لم يكتف بالضحكات المتعالية في أرجاء المسرح التي تتابعت في ذلك المشهد، ليتفاعل مع الجمهور، ويبدأ في ابتكار بعض الحركات الكوميدية التي جعلت الضحكات تتزايد وتعلو، وأضافت الكثير إلى المشهد، وكان بينها وضعه للمكرونه بداخل جيب بنطاله.
(الدقيقة 1:24:00)
مدرسة المشاغبين
قدم "ساحر الارتجال" شخصية ناظر المدرسة "عبد المعطي" في أول موسمين من مسرحية "مدرسة المشاغبين" التي عرضت عام 1973، وكان يرحب بارتجال سعيد صالح وعادل إمام حين تسنح لهم الفرصة طالما أن ذلك الارتجال في إطار احترام النص المسرحي المكتوب، بل كان يرد على ذلك، مستعينا بقدرته العبقرية على الارتجال كذلك، ما يدعم جمل الممثلين المرتجلة، ولكن مع تكرار الارتجال ليأخذ مساحة كبيرة للغاية من المسرحية، فقد النص المسرحي رونقه، والذي بدوره أدى إلى زيادة مدة العرض، وطول عدد الساعات التي يقف فيها "مدبولي" فوق خشبة المسرح، اعتذر "مدبولي" عن استكمال العرض، ورشح بنفسه الفنان حسن مصطفى للقيام بدور "الناظر" عوضا عنه.
كل (شيج) انكشف وبان
مجسدا شخصية "عبد العال" في مسرحية ريا وسكينة التي قدمت عروضها عام 1983، ينفعل الفنان أحمد بدير أثناء مواجهة "مدبولي"، قائلا له باللهجة الصعيدية: "جول الحجيجة يا حسب الله.. كل شيج انكشف وبان"، محولا ياء كلمة "شئ" إلى حرف الجيم عند النطق، معاملا إياه معاملة حرف "القاف" وفقا للهجة الصعيدية، فتستوقف الكلمة التي نطقها "بدير" "مدبولي" ليقول: كل شيج انكشف وبان، ويبدأ في الارتجال بخفة ظله المعهودة ليكرر نطق الكلمة ذاتها أكثر من مرة، مضيفا له جمل أخرى، ما يزيد من ضحكات الجمهور.
عبد المنعم مدبولي ممثل كوميدي مصري من مواليد حي باب الشعرية في 28 ديسمبر عام 1921، معروف بأفلام فنية كثيرة، بينها أفلام "مطاردة غرامية" من إنتاج عام 1968، و"الحفيد" من إنتاج عام 1974، ومسلسل "أبنائي الأعزاء شكرا" من إنتاج عام 1979، بجانب شهرته بتكوين عدة فرق مسرحية وتأليف وإخراج أعمال مسرحية كثيرة، ومن مسرحياته: "أصل وصورة"، التي عرضت عام 1963، و"لوكاندة الفردوس" التي عرضت عام 1964، و"حالة حب" التي عرضت عام 1967، و"السكرتير الفني"، التي عرضت عام 1968، و"هاللو شلبي"، التي عرضت عام 1969. وتوفى ساحر الارتجال عبد المنعم مدبولي في 9 يوليو 2006.