رانيا يوسف تكتب: غواية الفقد
سألتني صديقة ذات مرة عن الفقد، لم أكن يومها جاهزة للإجابة، لم أكن جاهزة حتي فأجأني السؤال، لم افقد شيء مهم في الحياة، هكذا كنت أفكر قبل ذلك اليوم ربما، وهل يعقل أن يعيش إنسان دون أن يذوق طعم الفقد؟
أصبحت لا اؤمن أن الفقد هو تلاشي الأشياء واختفائها من أمام عيني، أو انني لم أعد أعطي أي قيمة لرحيل الأشياء أو الأشخاص. ربما فقدت شيئاً كبيراً يوماً ما، بعده لم أشعر بفقدان أي شيء آخر.
ما هو الفقد ومتي نؤمن تماماً أننا بالفعل فقدنا هذا الشيء أو الشخص للأبد؟.. الفقد هو ضياع دون أي توقعات لعودة، الفقد قد يكون محاولة للتغير، ما هي أسهل الأشياء التي يمكن أن نفقدها ونحن هادئين مرتاحين البال، وما هو الفقد الأصعب، الفقد الأكثر حزناً، الأكثر ندماً، الأكثر فقداناً فوق الفقدان.
الفقد مثل أي وجع يختلف باختلاف إنسانيتنا، ثقافتنا، احتياجاتنا، وما الفرق بين الفقد والافتقاد.. الفقد يعني أننا بالفعل امتلكنا هذا الشيء لفترة من الوقت وفقدناه لأي سبب كان، اما الافتقاد ليس بالضرورة أننا امتلكناه ذات يوم، افتقادنا إليه قد يعني اننا لم نعثر عليه بعد، لم نمتلكه أبداً.
أكلت رأسي المزيد من الأسئلة.. أسهل انواع الفقد تري عندما تفقد إنسان، الفقد الحقيقي يقع عند الغياب المطلق، الغياب القدري كالموت، الفقد الأخير. تُري هل نفقد أحبابنا أو أعداءنا بالموت. الموت يفقدنا حضور الجسد واللسان، أما الروح لا تضيع أبداً حتى نقرر نحن نسيانها، قد فقدت والدي منذ زمن طويل، رغم ذلك لم اشعر يوماً بغيابه، أتذكره وقتما أشاء، صوته ونظراته واحتضانه لي، انفاسه التي كانت تغطيني وتحميني، لم افقد أبي تماماً، إذاً ترى ماذا فقدت بالفعل في حياتي، هل يمكن أن يكون حلم أو حبيب أو صديق أو أو .. كيف تقاس فاجعة الفقد إذاً؟
نحن لا نفقد شخصاً أو شيئاً إلا اذا قررنا بالفعل ذلك، نتخلى بكامل وعينا عن الأشياء التي عادة نتحايل على أنفسنا ونخدعها بأسباب كاذبة من أجل الاحتفاظ بها أطول، حتي نقرر بالفعل تحمل آلم الفقدان ونؤمن أن فقد هذا الشيء يعطينا طمأنينة أكثر من التمسك به.
لم أتألم يوماً لفقدان حبيب، بالفعل اعترف أني ممن يسعون أحياناً للتخلص من الأشخاص الكارهين للحقيقة براحة بال كاملة، عندما تقرر أن تفقد حبيب أنت بالفعل بلغت الحد الذي لا يمكنك فيه اختراع أسباب مزيفة للبقاء، وصلت إلى اللحظة التي لن تجلد فيها ضميرك وقلبك علي ذنب ما لا طاقة لك به، عندما تقرر فقدان شخص أنت تحرر نفسك من سيل الأوهام التي أدخلتها عنوة إلى افكارك. لن تفكر في هذه اللحظة إلا بالطمأنينة التي في انتظارك بعد اتخاذ هذا القرار، إن كان حبيب حقاً لن يدعك تفقده بهذه السهولة، وإن لم يكن فقد نجوت بما تبقي منك.
قد يكون الأكثر آلما هو فقدان صديق، لا ادري لم اشعر أن فقد صديق هو آمر بالغ الخطورة إلى هذا الحد، فقدت أصدقاء كثر، كانوا الأقرب والأبعد إليّ.. فقدت صديقة الطفولة بقلب راضي ومطمئن، وهي فقدتني دون أن يرف لها جفن، لم تحبّني يوماً ربما، هكذا قالت لي والدتي ذات زيارة لهذه الرفيقة إلى منزلنا، لم اصدق أمي كانت صديقتي الأقرب، لم اشعر بالوحدة في رفقتها، استولت علي حياتي، في النهاية كان الفقد هو الحل لم يكن وقتها مؤلم كما توقعت.
تزامن هذا الفقد مع فقد آخر، اتذكر هذة الأيام جيداً وقد مر أكثر من خمسة عشر عاماً، قررت أن أقيم مهرجاناً للفقد ربما، فقدت صديقتي وأسرتها وأخيها، فقدت أيضاً اول حبيب عرفت، يقولون دائماً إن فقد الحب الأول يشعرنا بكثير من الحزن والآسي والآلم.. لم يكن سوى أسهل وأمتع فقد سقط من شجرة فقداني للآشياء.
لا افهم حتى الآن كيف كان فقدان الحب الأول بكل هذة السهولة، الوقت كان دائماً كلمة السر لأي وجع، وحده قادر على هدم أي حزن نظن أنه من المقدسات التي لن تُمحي طويلاً.. لم أعد فعلاً احبه ولا أُحبها ولا أحبهم جميعاً، وصلت إلى النقطة المفقودة بين الشك الذي يزاولنا في بداية أي علاقة حتى بلغت اليقين التام بما أريد وما لا أُريد، تلك المتاهة التي يضيع أعمار كثيرة داخلها.. هناك من يتمكن من الإفلات سريعاً، ومن يستسلم للسقوط ويجد فيه راحة زائفة، ينتظر من ينجيه يموت ويتعفن بها، حتى أنه لا يجد من يشيعه أو يبكيه. أصحاب القرار وحدهم هم الأكثر قدرة على تجاوز هذة المتاهة دون خسارات فادحة، الأكثر تكيفاً مع ضربات الفقد المتتالية، لحظات التردد التي نسميها "ربما"، تضع قدم في النور وتسقط جسدك بالكامل في الوحل، اللهم اجعلنا من أولئك أصحاب القرار الأخير الذي لا يثنيه إغواء "ربما".
لازال السؤال يباغتني يبحث عن اجابة قاطعة، ما أسوء حالات الفقد إذاً؟، هل الحلم؟، حلم مفقود أو بالاحري أحلام نفقدها كل صباح، جميعنا فقدنا ونحن في طريقنا إلى حلم.. أحلام اكثر، طفولتنا وشبابنا استبدلنالها بأخرى لم تتحقق أيضاً، لم نشعر بفقد حلم.. أصابنا الحزن وحلمنا من جديد.
الأحلام المهدورة ليست دائماً الأجمل لنا، ليست كل الأحلام المهدورة مفقودة، هناك أحلام تخلينا عنها بإرادة تامة وأخرى أخبرنا الوقت أنها لم تعد تناسبنا، وأحلام حمدنا الله كثيراً أنها لم تتحقق، وأخرى تجاوزناها بأحلام أكثر نضجاً، وأخري تحققت وندمنا، لم تكن الأحلام المفقودة الأكثر وجعاً بين ما فقدناه، فماذا يكون الأكثر وجعاً إذاً.
يظل السؤال يبحث عن إجابة، الفقد فاجعة كبرى لم يصل إليها كثيرون حقاً، من يدورون حولها فقط،الفقد يصبح حقاً كارثة على دماغ صاحبه عندما يهم الإنسان بكل قوته لفقدان نفسه، والأصعب أن يفقدها وهو في كامل وعيه ورضا تام، يفقد الإنسان شغفه بالاشياء والأشخاص والمشاعر، يفقد شغفه للنجاح والحب والصداقة، تدريجياً، باختصار، يشعر الانسان بالمعني المطلق للفقد عندما يفقد شغفه للحياة.
رانيا يوسف، صحفية مهتمة بمجال الفنون والثقافة