حين ناقض شاعر المرأة نفسه.. رحلة مع الوجه الآخر لنزار قباني

حين ناقض شاعر المرأة نفسه.. رحلة مع الوجه الآخر لنزار قباني

«مكياج المرأة يجب أن يكون مكياجاً ثقافياً لأحبها.. لا أستطيع أن أحتمل امرأة جميلة وغبية».. هكذا يقول شاعر المرأة نزار قباني الذي حوّل مفهوم تحرير المرأة إلى قضية قومية وسياسية. لكن حين تُقلّب في دفاتر نزار المنسيّة ستجد قصائد عديدة يهاجم فيها الأنثى ويثور ويغضب ويهجوها بألفاظ لاذعة.

فهل ناقض شاعر المرأة نفسه؟ 

نأخذك في هذا التقرير في جولة بين دفاتر «نزار» الشعرية والنثرية، لنرى ما الوجه الآخر الذي هاجم به النساء.. وكيف دافع عن نفسه، وماذا قال النقاد عن هذه الحقائق المخفية؟

امرأة عمياء ومخادعة

«امرأة عمياء لا ترى، لكنها وجدت شاب يحبها، ويصر على الزواج منها.. لم ترض له أن يحطم مستقبله لأجلها، لكنها رضيت أن تستغله أسوأ استغلال».. هذا ما يحكيه نزار قباني في قصيدته «أتحبني وأنا ضريرة».

وخلف الوجه البريء للفتاة الذي عشقه الشاب، تكمن امرأة تدبر كل الحيل لاستغلاله.

إن أعدتّ إليّ بصري

سأرضى بكَ يا قدري

وسأقضي معك عمري

لكن ..

من يعطيني عينيه

وأي ليل يبقى لديه؟

وقع الشاب في الفخ وقرر أن يضحي من أجلها التضحية الكبرى.. فيخبرها:

أبشري قد وجدّتُ المُتبرعا

وستبصرين ما خلق اللهُ وأبدعا

لقد وجدته أعمى مثلها، فقالت:

أنا أتزوّجُ ضريرا

وقد أصبحتُ اليومَ بصيرا

فبكى

وقال سامحيني

من أنا لتتزوّجيني

ولكن

قبل أن تترُكيني

أريدُ منكِ أن تعديني

أن تعتني جيداً بعيوني

لا أحد غير «نزار» يعرف إذا كان يتحدث في هذه القصيدة عن تجربة حقيقية أو يناقش مشلكة اجتماعية أو يدمج الاثنتين معا؛ لكنه هو بنفسه يخبرك: «كل تجاربي الصغيرة هي في الوقت ذاته تجربة العالم كله. فأنا حين أتحدث عن حبي، إنما أتحدث عن العالم كله، وحين أتحدث عن حزني إنما أتحدث عن حزن الدنيا بأكملها؛ فالشاعر جزء من أرض ومجتمع وتاريخ وموروثات ثقافية ونفسية وعضوية. وكل كلمة يضعها الشاعر على الورقة تحمل في ثناياها الإنسانية كلها».. وذلك في كتابه «عن الشعر والجنس والثورة» الذي يسرد فيه حواره مع الناقد الأدبي منير العكش.

رجل يشتريها بالمال

تمت الخطبة أخيرا.. هكذا يحكي «نزار» عن إحدى حبيباته.. لكن خطبة الفتاة كانت لشخص آخر غيره.

«خائنة.. باعت حبهما مقابل حفنة من الأموال».. هكذا يصف حبيبته السابقة، حتى استحقت منه هجوما لاذعا في قصيدة بعنوان «خاتم الخطبة».

باعت تلك المرأة حبيبها مقابل الخطيب الثري، فيقول عنها «نزار»:

بائعتي بزائِفاتِ الحلىّ

بخاتم في طَرَفِ الأَنْمُل

وبالفراء، الباذخ، الأهْدل

«اشتراها بالمال».. عبارة أخرى قاسية يستخدمها الشاعر لوصف حبيبته السابقة:

سبية الدينار، سيري إلى

شاريكِ بالنقودِ.. والمُخْمَلِ

لم أَتصور أن يكون على

اليد التي عبدتها .. مقتلي!

هي إذا «قصيدة هجاء لامرأة خانت العهد».. كما يصفها الكاتب السوري، الدكتور أحمد حيدروش، في كتابه «شعرية المرأة وأنوثة القصيدة.. قراءة في شعر نزار قباني»، يقول أيضا بأن الشاعر لديه قصائد يهجو فيها نوعا أو جانبا معينا من النساء، رغم تعاطفه الشديد مع المرأة.

يحرر المرأة ويلعن نزواتها

«نقلت سريري إلى الهواء الطلق.. فأنا رجل أرفض أن ألعب لعبة الحب خلف الكواليس» يرد نزار بهذه الكلمات على اتهام واجهه به «العكش» وهو تعمد «الإثارة» في شعره.

لكن الشاعر الذي يقول: «أريد أن أنهي مرحلة الأحكام العرفية المفروضة على جسد المرأة، وأن أعيد للحب شرعيته» ولا يخجل من وصف أجزاء جسمها ودعوتها للتحرر الجنسي.. هو نفسه من يحذر المرأة من أن تسلم جسدها للرجل.

في قصيدة «أفيقي» يقول:

أفيقي .. من الليلة الشاعلة

وردي عباءتك المائلة

..

وأين ثيابك بعثرتها

لدى ساعة اللذة الهائلة

..

فعودي إلى أمك الغافلة

ستمضي الشهور .. وينمو الجنين

ويفضحك الطفل والقابلة..

القصيدة تتناول ثنائية «الخطيئة والطهر».. «امرأة دفعتها شهوتها إلى رجل، فقضت معه ليلتها ثم يحملها الرجل مسئولية خطيئتها».. كما يقول «حيدروش» في كتابه.

المرأة التي تتبع شهواتها نالت الكثير من الهجوم في قصائد متنوعة لـ«نزار» مثل «مدنسة الحليب» الذي يتحدث فيها عن الخيانة الزوجية، وقصيدة «إلى عجوز» التي يهاجم فيها عجوزا صاحبة بيتا للبغاء.

«أوصاف مقززة» يستخدمها نزار في هجومه على هؤلاء النساء. قد دنسن «الحليب» باعتباره رمزا للأمومة، بعد أن كشفن عن «نهودهن» للغرباء. 

لكن نزار يهاجم الرجال أيضا لأنهم «لصوص» لأجساد النساء و«ذئاب». كما يرى مؤلف «شعرية المرأة وأنوثة القصيدة».

يحب المرأة الماكرة


ويحب «نزار» المرأة الخبيثة الملاوعة، فهي لم تكن فقط المرأة الملاك المستضعفة التي يريد أن ينصرها على التقاليد الذكورية، إنه «يكرهها ويشتهي وصلها»، كما يقول في قصيدته:

«لها عين ذئب».. «محتالة».. «كاذبة».. لا يصف نزار بهذه الكلمات فتاة خائنة، لكن حبيبته التي لا يستطيع تركها على أي حال.

تبدو القصيدة مزيجا من الهجاء والحب:

أكرهها وأشتهي وصلها

وإنني أحب كرهي لها

أحب هذا المكر في عينها

أكرهها عين كعين الذئب محتالة

طافت أكاذيب الهوى حولها

يعود «نزار» ويحنو على حبيبته الملاوعة حين تبكي وتتعذر؛ لتتكبر عليه وتذيقه العذاب بعد ذلك:

أشك في شكي إذا أقبلت باكية

شارحة ذلها

فإن ترفقت بها استكبرت

وجررت ضاحكة ذيلها

يحبها حقدي ويا طالما وددت

إذ طوقتها قتلها

تجربة نزار قباني مع هذه المرأة، هي تجربة إنسانية في العموم، لأنه يصعب التفريق في قصائده بين حياته الشخصية ومواقفه الفكرية.. كما يقول «حيدروش».

حبيبته التي تتجمل لغيره

«تطلب من حبيبها أن يختار معها أجمل الثياب المكشوفة والملونة لترتديها لغيره».. هكذا يحكي «نزار» عن تجربة أخرى عاشها في قصيدته الشهيرة «طوق الياسمين» التي غنتها «ماجدة الرومي». 

لا تدري تلك المرأة كم يحبها الشاعر.. يحضر إليها الهدايا «طوق الياسمين» وكأنها الرسالة التي يريد بها أن يخبرها كم يحبها، لكنها تستمر في التلاعب بأعصابه وتتزين وترقص في الحانات لغيره من المعجبين.

شكرا.. لطوق الياسمين

وضحكت لي.. وظننت أنك تعرفين

معنى سوار الياسمين

يأتي به رجل إليك

ظننت أنك تدركين

لكنها ترتدي «طوق الياسمين» الذي أهداه إليها الشاعر، لتتزين لغيره من الرجال:

وبدأت أكتشف اليقين

وعرفت أنك للسوى تتجملين

وله ترشين العطور

وتقلعين

وترتدين

«المرأة المستبدة» لم تكن حالة فريدة إذا في شعر «نزار قباني» فهو يعود في قصيدة ثالثة بنفس الاسم، ليطلب منها أن «تقسو على قلبه وتمزقه كما تشاء».. لكن هل سيثور الشاعر في النهاية على هذا النوع من النساء المخادعات.. كلا، فهو يخبرها صراحة في القصيدة نفسها: 

حاشاك عمري أن أفكر في انتقام

إني لك قلب وحب واحترام

أبعدوا عنه كل النساء

«لا أريد أن ألمح وجه امرأة».. عبارة ترد على لسان «نزار» نفسه في قصيدة «أنا والنساء»:

أريد الذهاب..

إلى زمن سابق لمجيء النساء..

إلى زمن سابق لقدوم البكاء

فلا فيه ألمح وجه امرأه..

ولا فيه أسمع صوت امرأه..

لا يجد الشاعر مع الحب سلاما نفسيا، يبدو الأمر أكبر من مجرد حالة عابرة من الملل، كما يقول عن نفسه:

فهل ممكن؟

 بعد خمسينَ عاما من الحب

أن أستعيد السلام

..

أريد استعادة وجهي البريء كوجه الصلاة

أريد الرجوعَ إلى صدر أمّي

أريد الحياة..

إذًا، ليست القصيدة وحدها ما تقول أن المرأة أصبحت عبئا ثقيلا على الشاعر، لكنه يقول هو بلسانه: «المرأة، كانت ذات يوم وردة في عروة ثوبي، خاتما في إصبعي، هما جميلا ينام على وسادتي، ثم تحولت إلى سيف يذبحني».

لكن «نزار قباني» لم يتحول إلى عدو للمرأة، بل صراعه لتحريرها هو ما أرهقه كثيرا.. يعترف قائلا: «المرأة عندي ليست جارية تنظرني في مقاصير الحريم.. ولا فندقا أحمل إليه حقائبي، ثم أرحل.. المرأة هي الآن عندي أرض ثورية.. إنني أكتب اليوم لأنقذها من أضراس الخليفة وأظافر رجال القبيلة.  إنني أريد أن أنهي حالة المرأة الوليمة».

هل ناقض نزار قباني نفسه؟

«لا يمكن أن تقارن بين شعري في عامي الخمسين وشعري في العشرين، فحياتي عبارة عن مراحل».. هذا ما يخبرك به «نزار» عن نفسه، فكل قصيدة من لديه تعبر عن حالة أو مرحلة أو قضية إنسانية يناقشها.

سيقول لك «نزار» أيضا أنه لم يناقض نفسه عندما تغزل في تفاصيل جسد المرأة ثم تراجع ليناقش قضايا أكثر عمقا.. «فعندما كنت في العشرين من عمري.. ماذا كنت تتوقع من شاب في مثل هذا العمر، كنت مثل الذي يحمل كاميرا ويصور النساء.. الشقراء والسمرا والطويلة والقصيرة..

لكن الآن فحتى أحب المرأة يجب أن يكون «مكياجها مكياجا ثقافيا.. المرأة بالنسبة لي الآن صارت حوارا ثقافيا». 

«خمسون عاما وأنا أقاتل من أجل المرأة وقضيتها لكنها في عز المعركة تركتني».. هكذا يلخص شاعر المرأة موقفه من المرأة.. من دعمها ومساندتها.. ثم الثورة على بعض تصرفاتها؛ وذلك  في حوار تليفزيوني.

أميرة عبد الرازق

أميرة عبد الرازق

محررة صحفية ومترجمة مصرية مهتمة بشؤون التعليم واللغات وريادة الأعمال