حقيقة الـ«Zorro».. جاسوس ولص وراء الثورة المكسيكية وتحرير العبيد
تحت إضاءة خافتة جلس «جونستون ماكالي» على مكتبه، يحاول رسم ملامح شخصية فريدة لروايته الجديدة.
لقد اعتاد «ماكالي» على مثل هذه الأمور، وهو الكاتب الأمريكي البارع الذي يتسابق منتجو السينما ليستلهموا رواياته في أعمالهم الفنية.
«النجمة السوداء».. «العنكبوت».. «المهرج ذو اللون الأحمر».. تمر على ذاكرته أعماله السابقة التي لاقت نجاحا كبيرا، وشكلت كلاسيكيات السينما الأمريكية.. يقول لنفسه: «كلا.. أريد هذه المرة شيئا مختلفا.. شيئا «يحطم جميع المعايير ويبقى خالدا وحده».
سأجعل بطل روايتي ثعلبا.. داهية في الذكاء، فارسا نبيلا رشيق القوام لا يغلبه أحد، له جاذبية خاصة يوقع في حبه أجمل النساء.. غامضا يتخفى مساء كالأشباح.. لكنه على كل هذا يمتلك قلبا كبيرا يدافع به عن الفقراء والمظلومين.
وهكذا ولدت شخصية «Zorro» السينمائية الشهيرة، التي تعني «الثعلب» باللغة الإسبانية. وكان أكثر الأفلام شهرة التي تناولتها هو «The Mask Of Zorro»
التحول العظيم للفتى المدلل
في مدينة كاليفورنيا القديمة يعيش الشاب الأرستقراطي «ديجو دي لا فيجا».. ابن لعائلة ثرية له حظ كبير من الفروسية والوسامة أيضا.
لكن صلة هذا الشاب بالأنظمة الحاكمة، تجعله يطلع على حجم الفساد الذي تمارسه سلطة الاستعمار الإسباني، الذي يحتل أمريكا في ذلك الوقت.. أبرياء يحاكمون ويساقون للموت بلا ذنب، فلاحون ضعفاء تنهب أراضيهم.. عبيد يذوقون كل أنواع العذاب.
يتلقى «فيجا» صدمة قوية في الواقع من حوله، ويقرر أن يعيش حياة مزدوجة.. ملابس فروسية سوداء، وعباءة وقناع يخفيان ملامح جسده ووجهه، ليتحول إلى فارس مدافع عن الفقراء في الخفاء، وشاب أرستقراطي مُدلل في العلن.. لا يعرف أحد عن هويته المزدوجة شيء غير اسم «زورو» وعلامته الشهيرة «Z» الذي يتركها خلفه كلما التقى خصومه.
هذة هي شخصية البطل الأسطوري «زورو» كما رسمها «مكالي» في أول رواية «The Curse of Capistrano» التي تعني «لعنة كابسترانو». ثم تتوالي سلسلة من الروايات تتناول أسطورة «زورو» كبطل شعبي في مثل «The Mark of Zorro» الذي تحولت إلى فيلم مغامرة صامت أنتج لأول مرة عام 1920.
البطل العاشق يتعرض للظلم
يتعرض «زورو» ذلك الفارس المغوار لظلم شديد مرتين؛ مرة على يد «ماكالي» نفسه، حين يخفى أن شخصيته الخالدة، هي في الواقع شخصية حقيقية. ومرة أخرى يتعرض «زورو» الحقيقي للظُلم عندما يُحكم عليه بالإعدام حرقًا.
ميلاد الزورو الحقيقي
قبل أكثر من عشرين عاما من كتابة «ماكالي» لـ«لعنة كابسترانو».. يجلس الروائي المولع بالتاريخ والسياسة «ريفا بلاسيو» ليقلب في المخطوطات والسجلات التاريخية القديمة، بحثا عن مصدر إلهام لروايته الجديد.
شيء خطير يعثر عليه «بلاسيو».. قصة ترويها سجلات محاكم التفتيش في أوروبا القديمة، عن شاب مغامر يتحدى السلطات.. يحكم عليه بالسجن في الحصون الأوروبية العتيدة.. لكنه يتسلل منها ويهرب. تنسج حول هذا الشاب العديد من الأساطير.. يقول «بلاسيو» لنفسه: «ليس هناك أفضل من هذه الشخصية لأضمها لروايتي الجديدة».
وليام لامبورت.. تشابه الواقع مع الخيال
في آيرلاندا البعيدة يولد طفل شديد الذكاء في العام 1615 يدعى «وليام لامبورت» يرسله والده الثري للدراسة في لندن.
وهنا يتعرض لاضطهاد ديني شديد، باعتباره كاثوليكيا، في وقت كانت إنجلترا فيه تدين بالمذهب البروتستانتي.
يغضب «لامبورت» ويقرر الهرب إلى عرض البحر، وينضم إلى مجموعة من القراصنة، يتحول فيهما من فتى أرستقراطي إلى مقاتل مراوغ. ثم يقرر بعد عامين من المخاطرة وسط البحار أن يعرض خدماته وخبرات القتالية على ملك أسبانيا، فيلب الرابع، الذي يتعاطف مع الآيرلنديين الكاثوليك، والذي تحكمه علاقة طيبة بوالد «لامبورت».
ينضم الفتى الآيرلندي للجيش الإسباني، ويصبح واحدا من أهم رجالها السياسين.. ينال ثقة من الملك، حتى إنه يرسله في مهمة سرية للغاية.. لقد كان مطلوبا من «لامبورت» أن يعمل جاسوسًا! وهنا يتحول «لامبورت» لأكثر الشخصيات الثورية أهمية كما يخبرنا موقع «تاريخ آيرلاندا» أو «History Ireland».
جاسوس أم ثائر شجاع؟
مهمة «لامبورت» تتلخص في الآتي.. الذهاب إلى المكسيك، لجمع التقارير السرية عن أحوال الشعب والنخبة الحاكمة.. في هذا البلد الذي كان مستعمرة تغلي بالفساد والثورات الوشيكة.
يجمع الشباب الآيرلندي الكثير عما يحدث خلف الكواليس.. فهناك فساد النخبة السياسية الذي لا حد له، والفقراء والعبيد الذين تنهب أموالهم ويحاكمون ويقتلون دون أدنى ذنب، ومحاكم التفتيش التي تكشف عن فساد رجال الدين وسيطرتهم على الحكم.. يقرر «لامبورت» أن يثور على كل شيء.
يكتب «لامبورت» أول وثيقة للاستقلال في تاريخ المكسيك.. تتضمن الثورة على الملك وعلى محاكم التفتيش وتحرير العبيد.
«الوثيقة تخبرنا الكثير عن رجل ذكي ومثقف، سبقت أفكاره عصره بزمن بعيد، حتى إن أفكاره الثورية قد سبقت الثورة الفرنسية 1798».. هكذا يخبرنا «فرانسيسكو باروسو» عضو الأكاديمية الهندية للعلوم، بجامعة «وارويك» البريطانية.
لم يكن جزاءه من جنس عمله، فقد اعتقلته محاكم التفتيش الإسبانية في المكسيك، عام 1642 ميلاديا، بعد عامين فقط من وصوله المكسيك؛ ليقضي ثماني سنوات في السجن.. يكتب الرسائل السرية التي تفضح فساد محاكم التفتيش، ويكتب لأعوانه وللملك نفسه مدينا الحكم عليه بالسجن.
بوسيلة ما استطاع الهرب من السجن بطريقة غامضة، لكن «لامبورت» يأبى أن يختبئ أو ينجو بنفسه، ويبدأ في توزيع منشورات تدعو للاستقلال في كل مكان. ولم يدم الوقت طويلا حتى قبض عليه مرة أخرى وحكم عليه بالإعدام حرقا.
هل كان «Zorro» شخصا واحدا؟
تناقلت حكاية الـ«زورو» في أوروبا كلها، لكن هناك من يشكك في أن يكون «لامبورت» هو الملهم الوحيد لشخصية «زورو» كبطل شعبي في الحكايات المكسيكية القديمة.
فقصة الفارس الذي لا يعبأ بمواجهة فساد النخبة الحاكمة في العلن والانتصار للفقراء؛ هو نموذج شهير في الحكايات الشعبية الأوروبية التي انتشرت في عصر كانت الشعوب تتعرض فيه لظلم واضطهاد شديدين على يد الطبقة الأرستقراطية.
ففي القرن الرابع عشر الميلادي، وفي أدغال أوروبا البعيدة، ولدت أسطورة لا تقل شهرة عن الـ«زورو».. وهو «روبين هود» الفارس الذي يعيش وسط الغابات ويهاجم الأمراء ويسرق أموالهم ليوزعها على الفقراء.
الشخصيتان تتشابهان في الكثير من الخطوط العريضة.. ففي إحدى الروايات كان «روبين هود» فارسا أرستقراطيا نبيلا تمرد على الطبقة الحاكمة لصالح الفقراء؛ وفقا لموسوعة الأساطير «Myth Encyclopedia».
حتى الدراسات التاريخية التي بحثت في الوثائق القديمة، وحاولت أن ترجع «روبين هود» لشخصية حقيقية ذكرت أن هذه الشخصية قد ماتت مقتولة في النهاية.
الزورو وبات مان
لكن تلك الهوية المزدوجة مع القناع الذي يخفي شخصيته الحقيقية، هي أبرز السمات التي ميزت «Zorro» عن «روبين هود» وجعلت شخصيته هي الملهم الأول للأبطال الخارقين ذوي الهوية المزدوجة الذين يبحثون عن العدالة، مثل «سوبر مان» و«بات مان» اللذين ظهرا بعد أكثر من 20 عاما من روايات «ماكالي» وفقا لموسوعة الأبطال الخارقين «Hero Wikia».
قاتل محترف يتحول إلى بطل شعبي
كان «زورو» - في رأي آخر - قاتلا لا يرحم، لصًا مكسيكيًا، تسلل إلى ولاية كاليفورنيا في الفترة التي تعرف بـ«حمى الذهب» والتي بدأت منذ عام 1848، عندما اكتشفت مناجم الذهب تحت مجاري الأنهار، وتقاتل اللصوص والخارجين عن القانون للعثور على الذهب هناك، وفقا لـ«Dezert Magazine».
قصة أخرى تقول أن مُلهم شخصية «Zorro» هو «جواكين موريتا» شاب عادي، اغتصبت زوجته، وحُكم عليه ظلما بالسجن لاتهامه بسرقة الذهب، لكنه استطاع الهرب، ليقرر بعد ذلك الانتقام، باستهداف رجال الدولة وقتلهم.. لقد أطلق على «موريتا» على لقب «روبين هود المكسيك».
رواية ثالثة تجعل من «زورو» راهبا مسيحيا، استطاع أن يجمع حوله الكثير من الأتباع في مدة قصيرة، في تحدي كبير لرجال الدين وسلطة محاكم التفتيش في ذلك الوقت.. قُتل هذا الراهب في ظروف غامضة بإطلاق النار.
نصب تذكاري يخلد الثوار
لم يكن «زورو» بالشخصية الهينة إذًا.. تعدد التفسيرات حول شخصيته الحقيقية، لكنه يبقى رمزا للثورة على الفساد والظلم.
واستطاع الشعب المكسيكي أخيرا أن ينال استقلاله عن الحكم الإسباني في العام 1821 بعد حرب عرفت بحرب الاستقلال.
الحياة مثل حلم نحلمه
خلال الفرح والألم
سنستطيع أن نحرك العالم من جديد