العهدة المحمدية لتأمين رهبان «سانت كاترين».. قصة وثيقة أمان ومسجد في دير
مسجد في قلب كنيسة ويجاورهما جبل طور سيناء المقدس الذي تلقى فيه النبي موسى تعاليم الديانة اليهودية.. واقع يبدو حالما بعض الشيء، لكنه موجود بالفعل في دير «سانت كاترين» بسيناء.
يبدو دير «سانت كاترين» كمجمع للأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام.. مزارا سياحيا أدهش الشرق والغرب؛ غير أن قصة هذا الدير في العصور الإسلامية تحديدًا، كانت جديرة بأن تُروى ويُسلط الضو عليها.
العهدة المحمدية لتأمين رهبان الدير
خلف جدران بلون الجبال تقع واحدة من أقدم مكتبات العام، وهي مكتبة دير «سانت كاترين» والتي تحتوي على 6 آلاف مخطوط أثري.
ومن بين تلك المخطوطات توجد وثيقة تسمى بالعهدة المحمدية، تعطي الأمان لرهبان الدير والمسيحيين المصريين في كنائسهم ومعابدهم.
الوثيقة الموجودة بالدير هي نسخة عن الوثيقة الأصلية التي أخذها السلطان للعثماني سليم الأول إلى تركيا.. كما يقول مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بسيناء، الدكتور «عبد الرحيم ريحان» في كتابه «سيناء ملتقى الأديان والحضارات».
لكن هذه الوثيقة تثير بعض الشكوك
«الرسول أعطى الأمان للمسيحيين في مصر، هذا شيء مجزوم بصحته».. كما يقول أستاذ الآثار القبطية.
الأمان الذي يؤكده أستاذ التاريخ القبطي بجامعة دمنهور الدكتور «عزت قادوس» هنا هو الأمان الشفوي، من خلال أحاديثه الذي يوصى فيها بالمسيحيين، مثل «استوصوا بأهل مصر خيرًا» ومن خلال الرسل الذين كان يرسلهم إلى ملوك الدول المجاورة ويدعوهم فيها للإسلام، وفي نفس الوقت يعطي فيها الأمان للمسيحيين في تلك البلاد، لأموالهم وكنائسهم.
ويضيف أستاذ التاريخ القبطي: «من الوارد جدا أن القائمين على الدير قد دونوا هذه الرسائل الشفوية وكتبوها، ثم أطلقوا عليها العهدة المحمدية أو النبوية، نسبة إلى وصايا الرسول التي خص بها المسيحيين».
يعود «ريحان» ويقول أنه من الوارد أن يكون رهبان دير «سانت كاترين» قد حصلوا على رسالة مكتوبة من الرسول؛ لأنه بدءا من العام السابع الهجري كان الرسول يرسل رسائل إلى كسرى ملك الفرس والمقوقس ملك مصر يدعوهم فيها إلى الإسلام. وإذا كان الدير يقع في طريق القادم من شبة الجزيرة العربية إلى مصر، فمن المعقول أن يكون رهبان الدير قد تقابلوا مع حامل رسالة الرسول، وطلبوا منه أن يرسل لهم عهدا بالأمان؛ كما يقول «ريحان» في تصريحات نقلها عنه موقع «رصيف 22».
أمان شفوي فقط
يستمر الجدل حول هذه الوثيقة، فأستاذ التاريخ الحديث بجامعة دمنهور الدكتور، رفعت محمد الإمام، يقول: «لا توجد لدينا عهدة موثوقة خاصة بالمسيحيين إلا العهدة العمرية لأهالي بيت المقدس، وهي نابعة من تعاليم الرسول وتأكيده على الأمان للمسيحيين في أرجاء المعمورة كلها؛ حتى إن عمر بن الخطاب نفسه رفض أن يصلي بالكنيسة حتى لا يفعلها المسلمون من بعهده».
أستاذ التاريخ الحديث الذي أشرف على رسالة دكتوراة تتناول دير «سانت كاترين» في العصر العثماني؛ يقول لـ«شبابيك» أنه لا يوجد دليل على وجود نسخة أصلية للعهدة المحمدية بتركيا».
«أخذ السلطان سليم الأول الكثير من التحف والآثار وحتى الكتب المصرية القديمة؛ لكن لم ترد الوثيقة المحمدية ضمن ما أخذه معه».. كما يتابع «الإمام» في حديثه لـ«شبابيك».
جامع بداخل الدير
في قلب الجبال وخلف الأسوار الرومانية العالية التي تشبه أسواء الحصون القديمة، يقع بدير سانت كاترين، مسجد صغير.
روايات كثيرة تناقلها التاريخ حول بناء هذا المسجد.. فالمسجد قد بُني في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله؛ ليصلي فيه أهالي سيناء من المسلمين، وليكون استراحة لحجاج المسلمين في طريقهم إلى مكة؛ وفقا لدرسة «ريحان».
لكن خلف هذه الصورة الحالمة عن التسامح الديني، فهناك روايات مختلفة تماما.. فهناك مؤرخون غربيون يقولون أن الخليفة الفاطمي أراد أن يهدم الدير، وهنا قرر الرهبان أن يبنوا المسجد، لحمايته من بطش الخليفة.. وهي رواية ينفيها «ريحان» في دراسته.
هناك متخصصون آخرون يرفضون هذه الرواية؛ فأستاذ التاريخ القبطي «عزت قادوس» يقول لـ«شبابيك»: «لم يكن الأمر مقتصرا على دير سانت كاترين أو الديانة المسيحية؛ فقديما لم تكن لدى المصريين أي حساسية تجاه الديانات الأخرى. فهناك معبد القصر، في الأصل هو معبد فرعوني ثم بني بداخله كنيسة، ثم بني بجوار المعبد والكنيسة مسجد. وفي العصر الحديث لدينا مسجد الرفاعي الذي تزينة أشكال تشبه الصلبان من الداخل والخارج».
في ذلك الوقت البعيد لم يكن لدى المصريون حساسية من أن يصلي المسلم وبجوار مسجده كنيسة، أو أن يبني المسيحيون كنائسهم بجوار المساجد أو في قلب المعابد الوثنية، كما يتابع أستاذ التاريخ القبطي لـ«شبابيك».
يعود «ريحان» ويقول في دراسته أن الفاطميين كانوا مولعين ببناء المساجد في الأماكن المقدسة؛ وهو ما دفع الآمر بأحكام الله لبناء المسجد بداخل الدير الذي يحيط بمنطقة طور سيناء المقدسة».
ولم تكن هذه الواقعة الأولى التي تروي عن هذا الخليفة الفاطمي، فيقال أنه بني الجامع الأقمر بمكان دير قديم، يسمى «بئر العظمة» أو «بئر العظام».
طريق الحجاج القديم
في طريق جبلي شديد الوعورة، كان الحجاج المسلمون يجدون في مسجد الدير استراحة من عناء السفر.
يحكي «ريحان» في كتابه: «حتى عام 1885 كان الحجاج ينتقلون بريا إلى دير سانت كاترين لزيارة الوادي المقدس، وهناك كتابات للحجاج بالجامع الفاطمي الذي أنشأه الأمير أنوشتكين في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله»..
ولا تزال في الجامع إلى الآن التذكارات التي كان يتركها الحجاج في الزمن القديم.
سانت كاترين والحروب الصليبية
لا زالت الكثير من القصص تروى حول دير سانت كاترين، منها ما يتعلق بالحروب الصليبية.
فعندما جاء العام 1117 الميلادي، كان ملك القدس يرغب في زيارة الدير، لكن رهبان الدير رفضوا هذه الزيارة، حتى لا تتوتر علاقاتهم مع الدولة الإسلامية، كما يقول «ريحان».
هناك روايات أخرى تقول أن الجامع الفاطمي بالدير كان له دور في تأمين الجنود المسلمين خلال الحروب الصليبية.