محمد الشرقاوي يكتب: وشهد علينا الكروان
يظل الخوف يقلق مضجعي في بلاد لا تعرف شيء عن الحب سوى إشباع رغبات جنسية ونزوات، هناك على حافة النهر جلست أخاطب تلك النجوم الشاهدة على ذلك الخوف، غير أن السحائب الرمادية باتت تغطي القمر برهة وأخرى تداعب تفاصيل وجهي الذي أجهده الهجر.
صوت صفير يشق ظلمة الليل، يسمونه في قريتي دعاء الكروان، كانوا يقولون لي ادعوا الله بما تحب وقتها فهو طير من طيور الجنة، عمتي كانت تقول هكذا حتي أنها كانت تترجم تلك الألحان بكلمات التسبيح.
إلا أني وجدت لساني ينطق بكلمات هي: «سبحانك الله ملك المحبين وإله العاشقين احن على قلب أجهدته مرارة الأيام اشفع لوجه لم يول وجهته للسماء وأخذ يتلصص وجوه الخلق ناسيا أن أعظم المحبين في السماء.. ربنا آتنا ما ينير صدورنا ويعيدها لصباها».
عاد الصوت مرة أخري وكأنه استجابة من السماء، تضيف عمتي أنه إذا تكرر الصوت فإنها استجابة، تبسمت على مضض وأخذت ألهو بفروع الشجر المتساقطة على رأسي وأرسم بها قلوب صغيرة أكتب فيه من اشتقت لرؤيتهم.
العام أوشك على النهاية حان موعد عودتي للعمل، جهزت حقيبتي ووضعت فيها ألبوم الذكريات، صوره كلها تجسد لحظات الفرح التي توقف عندها العمر ولم يعد مرة أخرى.
تزامن وصولي مع احتفالات رأس العام، فالمدينة صاخبة والأحبة يطوفون شوارعها يرتدون حلتهم، ولأني لا أحمل سوى الذكريات أخرجتها من حقيبتي وأخذت أسير باتجاه الميدان، هناك سمعت صوت الكروان إلا أن الصخب طغى عليه.
تذكرت تلك الدعوات التي شهدت عليها الأغصان المتناثرة على ضفاف النيل، وتمنيت ألا ينتهي العام الجديد كماضيه، لم تمر سوى أيام، رأيت بجوار مسكني في المساء فتاة لدقيقة واحدة، هي عمر الهبوط إلى بهو ألقيت عليها السلام ليس أكثر إلا أن عقلي توقف معها.
مرت أيام ولم أعد أسمع صوت الصفير فالجحود الذي تشبعت به أروقة المدينة منع دخول طيور الجنة وذهقت أرواحهم على عتباتها بسبب صخبها.
لكني وجدت الصغيرة مرة أخرى ووجدت سحابة تصاحبها مرسوم فيها الكروان، أطلت بابتسامة لم تغب رغم عبث العمل وتخبطه إلا أنا كانت حانية.
شيء ما يشدني إلى تلك الفتاة فأقسمت على الله أن تكون هي، ومرت أيام وباتت شمس قلبي أكثر إشراقًا رغم أن الحب لم يفتح بابه بعد، لكننا تعارفنا وتقاربنا لنصبح صديقين.
عقارب الساعة أوشكت على منتصف الليل موعد حفل أم كلثوم، في طريقي إلى المقهى ومضت في ذاكرتي مقطوعتها «فكروني» طلبت من تلك الصغيرة سماعها لأفاجأ بأنها تعشقها، اقتربت من المقهى أصبح صوت المذياع جليا بها.
في الليل يأتي التمني، كنت أسمع تلك المقولة من أحد الأساتذة، انتهت جلستي في المقهى وصعدت إلى شرفتي تذكرت دعائي لرب العاشقين، والأدهى أن دعاء الكروان شق ظلمة الليل أيضًا.
لم يعد الهجر يقلق مضجعي لكني عاودت الدعاء وأخذت ألح على الله به قبل نومي، وبجواري ألبوم الذكريات، كأن صوتها يوقظني ويدها تداعب شعري وأشرفت بعدها غرفتي، وإذ بمنادي يقول اقترب فإن لك فيها خيرا.
لا أعلم من من وقتها ما حدث، فالقدر تولى كل التفاصيل وتجلت مشيئة القدر في حبها، يمر اليوم تلو الأخر يزداد تعلقي ويهفو القلب أكثر، وجدت عقارب العمر المتوقف تدق مرة أخرى لتفتح معها صفحة حياة جديدة أزالت التراب عن قلب أجهده الزمن.
محمد الشرقاوي، صحفي ومدوّن مصري يهوى الرواية والأدب، وله العديد من المقالات في عدد من منصّات الرأي