محمد حليم يكتب: الصحافة.. من «الشغف» إلى «أكل العيش»
منذ البداية، ولنا في الحياة من المحطات ما يكفي بأن يعيش كل منا مشواره الخاص.
المحطات عديدة ولها من المعاني الكثير، وفي كل محطة يختلف المعنى عن ما سبقه وما سيليه.. تحمل لنا محطاتنا من المشاعر والآمال ما يكفي بأن يجعلنا في الحياة مهمومين بها، ولكننا في نفس الرحلة؛ رحلة كل منا، نعيش يا صديقي المشوار فمنه وإليه نكون، ولكن لأين؟ لا نعرف فما باليد حيلة، لكننا نؤمن بإنه إلى القصد وإلى الحلم، إلى تلك الأمال التي تركتها لنا محطاتنا، نحاول! لعلنا نحقق ما يثيرنا في الواقع والخيال.
و من داخل «قطار الصحافة» سأعود معك إلى بداية الرحلة، وأولى المحطات التي انطلق منها القطار وانطلقت معه.
أبي كان محبًا لكتابة المراسلات والخطابات وبحكم عمله في الشئون الإدارية والتوثيقات أجاد الكتابة، وقد دفعني الفضول ذات مرة وهو ممسكًا بعدد من الأوراق وبها من الأقلام العديد، سؤاله عن كتاباته الدائمة بكل تلك الأقلام.
ولإنه أراد أن أكون مطلعًا وعلى علم بالتفاصيل، فعلمت منه أن هذه الأقلام أهداها له صديقًا كان يعمل صحفيًا فلها من الخطوط أشكالًا جذابة تساعده أثناء الكتابة وفي توقيع مقالاته.
لم أفهم كلمة مما حدثني به، ولم أتعلق بأي كلمة مما قاله سوى صحفيًا، دون أن أعلم بعد بأن فضولي هذا كان «بداية الرحلة».
كان ذلك في سنوات عمري الأولى وأنا لا أعرف عن الصحافة غير أن لوالدي صديق صحفي أهدى له عدد من الأقلام وكانت هذه أبلغ المعان والكلمات.
في الصف الثالث الابتدائي، كنت قد اشتركت في بحث طلابي وحصلت على المركز الأول، طلب مني وقتها ناظر المدرسة في سرور وبهجة بأن أذهب إلى مدرس الصحافة لإعداد كلمة ألقيها أمام الطلاب عن ضرورة المشاركة في الأنشطة المدرسية.
أصابني الذهول، فأنا الطفل الانطوائي الذي لم اكترث بشئ سوى أن أجلس بمفردي، أكرم الأن أمام حشد من الطلاب، بل وألقي كلمة بمشاركة مدرس الصحافة، تذكرت وقتها حديث أبي وأنا في السادسة من العمر بأن له صديق صحفي، وانتابني إحساسًا بأن هناك شئ سيربطني بالصحافة.. كنا صغارا تدفعنا أنفسنا إلى التعلق بكل ما يتردد في مسامعنا ويترك لنا أثر
طفلًا في مثل عمري، وقف له الجميع تقديرًا وإجلالًا بمساعدة الصحافة المدرسية، وتفتحت عينيه على عشق أبيه للكتابة، فهل هذا لا يكفي بأن يتكون شغفه للقلم؟!
في السابعة عشر من العمر، كنت طالبًا في المرحلة الثانوية، ومنها تنطلق الأحلام.. صمت! فلا أعلم ماذا أريد، ولكن ما أعلمه أن بداخلي شئ ينتزعني إلى الصحافة، كان ليناير الثورة الحدث الجلل، واشتعلت الأحداث السياسية، مقابل اشتعال الشغف في داخلي، انتابني معرفة ماذا يحدث، لجأت إلى الصحف وكٌتاب المقالات بها، فشعرت بأنني واحدًا منهم أكتب وأحلل، أعارض وأؤيد، لي من وجهات النظر ما يكفي بأن أكون في يومًا ما مثلهم، ومنذ تلك اللحظة عرفت أن لشغفي طريق، علي أن أسير فيه بأن أكون صحفيًا من ذوي الأقلام الحرة مهتمًا بالنضال في السياسة والمجتمع.
وكانت ليناير الثورة، الحدث الأهم في طريقي إلى الصحافة، وكان لها أيضًا أبلغ المعاني والكلمات
مرت الأعوام، والِتحقت بالصحافة دارسًا وممارسًا، فرحت إلى درجة البكاء، ومع كل خطوة في طريق الحلم، لقيت الهم.
تذكرت أيام كنت أسير في الشارع، وأحدق بعين يملئها الأمل على كل بائع للصحف، ابتسم له ولقارئه، أسرق اللحظات وأنا اشتري جورنالي المفضل لأتحدث مع من حولي من القراء، أكون الصدقات مع كل من يجد من الجورنال صديقًا، أجلس في حجرتي والصحف من حولي تفوح رائحتها إلي كورود الربيع، ويتدفق ارتطام أوراقها من الهواء كهدير البحار، كنت أجد نفسي في عالم الأخبار.
الأن وأنا في طريقي إلى عملي بإحدى الصحف، وبعد أن أصبحت واحدًا من ضمن من يقدمون الخبر إلى القارئ، لم يعد ينتابني أي شغف للقارئ ولا للجورنال الذي كان يرافقني وحدتي، ولم أجد للصحف رائحة كأشجار جذورها شابت، ولا لارتطام أوراقها أصوات وكأنها نهر جاف، فعملي أصبح هم، أذهب إليه إلى حيث أكل العيش.. ومن الحلم إلى الهم يتعسر الشغف، لكنها معركة صدق في السعي وراء المعنى دون قضاء الوقت.
ولكن إلى أين يكون الشغف؟ لا أعرف
لكن ما أعلمه أن كل منا في مشواره يحاول، علمت بشغفي خلال سنواتي المتتالية، دون أن أعرف إلى أين سأكون، في كل محطة أعلم أن هناك جديد، ولكن ما الجديد فلا أعرف. يناير الثورة قامت دون أن أعلم عن الثورات شئ وكان إلحاقي بعالم الصحافة، وحديث أبي جاء من قبيل الصدفة وكان لبذرة شغفي إلى الكتابة، فما لنا إلى الانتظار بداخل القطار، نحاول معه لنعلم إلى أين ستأخذنا محطاتنا!
يا قطاري رفقًا بي فأنا لا أتحمل الانتظار