معاذ حجازي يكتب: «الحُب».. نارُ الدنيا وجنتها

معاذ حجازي يكتب: «الحُب».. نارُ الدنيا وجنتها

هُنا قلبٌ يئن ذابلًا، وهناك قلبٌ يبتهجُ مُنتعشًا، هُنا قلبٌ يحتضرُ سرًا، وهناك قلبٌ ينتشي علنًا، هُنا حبٌ يُميتُ الروح ويُهلك الجسد، وهناك حبٌ يُحيي الروح والجسد معًا، كأنما للحب يَدَيْنْ، يدٌ تسلبُ الحياة ومعانيها، ويدٌ تضفي على الحياة معنى الجمال وجمال المعنى، والفرق بين هذا وذاك كالفرق بين البستان والوَحْل.

قد يبني الحبُ نفسًا بعد هدمها، وقد يهدم الحب نفسًا بعد بنائها، قد يبدل ظلامَ الليل نورًا، وقد يُزيح النور عن الليل والنهار، له في قلوب الناس شأن عظيم، عظيمٌ في الربح وعظيمٌ في الكساد.

هؤلاء الذين وقعوا فخًا لنيران الحب حتى توهجت في قلوبهم، كانوا يُحسنون الظن في نهاية ما آلت إليه القلوب والعقول، علّقوا آمالهم على حبال ذائبة لا تكاد تمنحُ حتى تحرِم، بدا الطريق أمامهم ممهدًا وحنونا، وبَدَتْ سماءُ الطريق فوقهم زرقاء صافية، فراحوا يتعثرون في غير توقع، ويكذّبون الواقع المحسوس ليصدقوا أهواء أنفسهم الزائفة، إلى أنْ وصلوا إلى نقطة التصديق والإيمان بالحقيقة الأليمة، ليوقنوا أن الطريق أمامهم مُتعرجًا وقاسيًا، وأن سماء الطريق فوقهم ملبّدَةٌ بالغيوم.

تسيرُ أرواحهُم بين الناس بِهَمٍ لا يُرَى، وبدمعٍ لا تفضحه الأعين بقدرِ ما يفضحه القلب، يُسامرون الناسَ بوجدانٍ جريح ينقضُّ على جلساتِ المرح ليلهو وينسى مطاردة المأساة الروحية له، لهم سكونٌ خاصٌ يُخفي وراءه مرارة الألم، ومنهم ثرثرة بلْهاء تُخفي وراءها قصد النسيان، على أَسِرَّتِهم تُسْكَبُ المدامع التي لم يرَهَا الناس، حزنٌ صارخٌ تفضحه عيونهم أمام الليل المتأخر، هذا الليل الذي يُرَحبُ ويُنصت للمساكين، بَيْدَ أنهم في عيون الناس ذوي قلوب قوية وسعيدة، إذْ أنَّ الناس لم يلحظوهم في كهوفهم الحزينة، حينما يحتضرون بداءِ الحب ولا دواء إلا البُكاء.

ثمة أناس يلعنون الحب ومعانيه، يكرهون اسمَه وما اشتق منه، والحب في هذا كالطريق الذي قيل إنّ به شبح يلتهم من مر به، فحرصوا هؤلاء التعساء ألا تسير قلوبهم إلى هذا الطريق مجددا حتى يسير العُمر وينقضي.

​​​​​​​

وأولئك الذين منحهم الحبُّ حياةً ليست كالحياة، ووهبهم رزقًا معنويا لتقتات منه أرواحهم بتلذذ إلى أن تلفظ أنفاسَها الأخيرة، يُبصرون الحياةَ بعين الجمال، ويسمعون الأصواتَ بآذانِ الطرَب، ويلمسون الوجود بإحساسٍ لطيف، تصدحُ أفواهُهم دوما بقصائد النشوة والمرح، لا يعبأون بمعارك البشر، إذْ أن العالم عندهم إنسان، إنْ نالت منه الحياة كأنما نالت من العالم أجمع، وإن منحته الحياة كأنما منحت البرية بِرُمَّتِها.

سعادةٌ تسيرُ على الأرض، أو بهجة يلحظها بنو البشر، إيمانٌ بالحياة قد اجتاح قلوبَهم، وسلام مع النفس ما جاء إلا ليدوم، وما دام إلا ليُعَلَّم الناسَ أثر القلب على القلب، وقوة الروح المُنبَعِثة منها إلى غيرها، بسمةٌ تتلوها بسمة، وكلمةٌ طيبة تخرج من الحبيب تَغْلبُ كفة حديث طيب من العالم بأكمله، فيبدوان كجدارين إذا مال أحدهما أقامه الثاني، وهما كالروح الواحدةِ المنقسمة على جسدين، فيهما نفسُ الخصال ومنهما ذات المعاني، اجتمعا بقلبٍ التهب بحرارةِ الشوق وفارقا بقلب فاض بانتظارِ اللقاء.

ثمة أناس يذوبون في الحب ومعانيه، يُشيدون باسمه وما اشتق منه، والحب في هذا كمصباح استعان به الناس على ظلمات حياتهم، فحافظوا عليه خشية الإهدار، وصنعوا منه ملاذا يُربتُ على أكتافهم إذا ضاقت عليهم دنياهم.

هؤلاء وأولئك مشتركان في عمليةٍ واحدة تُدْعى «الحب»، فالحب الذي أبكى هؤلاء هو ذاته الذي أضحك أولئك، هنا حرَم الحب ولم يمنح شيئا، وهناك منح الحب كل شيء، نزل حينًا إلى منزلة القبول ونزل آخر إلى منزلة الإعراض.

كل شيء في الحياةِ يتفرعُ إلى ضدين، إذا غاب أحدهما حضر الآخر، وكذا الحب في قلوبِ البرية لا يختفي بشيئيه أبدا، فإما أنْ يمكثُ داعمًا أو يُهلِكُ ناقمًا.

إنّ الإنسان في حاجةٍ دائمة إلى حياةِ الشعور، تلك التي تقوده إلى الشعورِ بالحياة، ومن حياةِ الشعور إلى الشعورِ بالحياة يولد جمال الحياة المُبتَغى، ويموت كل عبث وتذوب كل نائبة، كأن القلب وحده اختص بالحكم على دنيا الإنسان إما بالجمالِ وإما بالقُبح أو بهما في آن معا.

«خذ كل شيء عندي وأعطني غذاء الروح الأبدي».. هكذا تأملُ كل نفس ذاك الرباط الروحي المقدّس، كأنه غاية النفس في دنياها ومعبرها إلى أخراها، فلها منه مدد تستقي منه الرفق والحنو، وإليه منها الحرص والرعاية الدائمة، طرفاهُ مكافحان في بحر عميق يساعدان بعضهما خشية الغرق حتى يصلا إلى شاطئ السلام النفسي، ذلك الشاطئ الذي إذا دبّت فيه معركة ضارية كانت بردا وسلاما على القلبين، لأن الحب ثالثهما.

لا تطرقوا أبوابَ قلوب ليست لكم، ولا تغامروا بأرواحكم الهشّة فيما لا تستطيعون إليه سبيلًا، ففي الخيرِ المُتَوَهّم شر مخفيّ، وفي الشر المتوهم خير مخفيّ، فإذا مضى القلب سيرًا في اتجاه ومضى القدر سيرًا في آخر فإن في ذلك حكمة بالغة مُستترة، يعلمُها خالق الأرواح والمطّلع على سرائرهَا، يُبديها إنْ شاء ويُخفيها إنْ حَكَمْ.

هذا المقال مشاركة من كاتبه في إطار مسابقة «شبابيك» التي أطلقها في الذكرى الثانية للموقع

 

شبابيك

شبابيك

منصة إعلامية تخاطب شباب وطلاب مصر