التصفيق أصلي ومزيف.. هذه علاقة الإيقاع البدائي مع الغناء في مصر

التصفيق أصلي ومزيف.. هذه علاقة الإيقاع البدائي مع الغناء في مصر

العلاقة بين الغناء والتصفيق أزلية؛ بدأت عندما عرف الإنسان كيف يغني، واستمرت وأصبحت متلازمة بعد ذلك حتى وإن تغير شكلها. أستاذ الخطاب والبلاغة بجامعة القاهرة الدكتور عاطف عبداللطيف رصد أبعاد العلاقة بين تصفيق المصريين والغناء في كتابه «لماذا يصفق المصريون؟».

المصري القديم

كانت يد الإنسان أقدم آلات النقر البشرية، فبواسطة التصفيق استطاع الإنسان الأول الحصول على أول ضابط للنغم.

ويعود التصفيق المصاحب للغناء إلى عصور غاية في القدم، فالرسوم الفرعونية التي ترجع إلى عصر الدولة القديمة يظهر فيها أفراد يصفقون بمصاحبة العازفين والمغنين. منذ ذلك الزمن البعيد ظل التصفيق مكوناً مهماً من مكونات الموسيقى المصرية الحديثة.

استمرت وظيفة التصفيق كضابط للإيقاع قروناً طويلة في المجتمع المصري. وما زالت الأغاني الشعبية التي يغنيها الفلاحون والعمال في الريف المصري تستخدم التصفيق لأداء هذه الوظيفة، فهو يقوم بملء فراغ فترات الصمت التي توجد بين كلام الأغنية، إضافة إلى ضبط إيقاعها.

وربما ترجع أهمية التصفيق الشديدة في الغناء الشعبي إلى أن هذا الغناء كثيراً ما يكون غير مصحوب بأية آلة موسيقية.

القرن التاسع عشر

ومع دخول مصر عصر التحديث في القرن الـ19 وأوائل الـ20، تطور الغناء المصري بدرجة كبيرة، وانتشرت الفرق الغنائية التي تُعنى بمصاحبة آلات موسيقية، سواء كانت آلات التخت الشرقي القديم التي تضم العود، والطبلة، والرق، والقانون، والناي، أم الآلات الموسيقية الحديثة مثل البيانو، والجيتار، والساكسفون وغيرها.

وأدى هذا التحول إلى تراجع دور التصفيق في ضبط الإيقاع وملء الفراغ بين الكلمات في الأغاني المصرية.

لكن هذا لم يؤد إلى اختفاء التصفيق من الأغاني. فقد أدى انتشار الراديو، وإطلاع المصريين على عادات الجماهير الغربية في الاستماع إلى الغناء والموسيقى إلى انتقال الوظيفة الاستحسانية للتصفيق إلى الجماهير المصرية، فأقبل المصريون على هذه الاستجابة الجماهيرية، وغدوا يصفقون كلما أمالت رؤوسهم طقطوقة، أو انتزع منهم الآهة موال.

الخمسينات والستينات

لم يكن الاستحسان هو الوظيفة الوحيدة التي يقوم بها التصفيق خلال الحفلات الغنائية في مصر في خمسينات وستينات القرن العشرين. في أغنيات أم كلثوم بالتحديد، ظهرت وظيفة جديدة هي طلب الإعادة أو التكرار.

فالجمهور المفتون بالصوت العميق لسيدة الغناء العربي، اتخذ من التصفيق رمزاً لطلب إعادة كوبليه أو مقطع سابق. غالباً ما كان يبدأ هذا التصفيق فور شروع المطربة وفرقتها في غناء كوبليه جديد، ويستمر متصلاً حتى ترضخ للجمهور وتتوقف عن الغناء، وتبدأ في إعادة الكوبليه السابق.

عند ذلك يصفق الجمهور مرة أخرى تصفيقاً طويلاً انتشاء بتحقيق رغبته، وتحية لمن حققها له.

وفي بعض الأحيان كان مثل هذا النوع من التصفيق – الذي يمكن تسميته بـ«تصفيق الإعادة» – يحدث بهدف طلب تكرار جزء من المقدمة الموسيقية.

 

 

حدث ذلك في أول أداء لأغنية «أنت عمري» في عام 1964 – التي غنتها أم كلثوم ولحنها محمد عبدالوهاب- عندما طلب الجمهور إعادة مقدمتها الموسيقية مرات كثيرة، وكان الجمهور يقاطع أم كلثوم كلما شرعت في الغناء ويطلب منها إعادة المقدمة الموسيقية.

ومن ثم كان التصفيق – بالإضافة إلى الهتاف – الوسيلة الأساسية لإظهار استحسان الجمهور وافتتانه بصوت «الست»، وغالباً ما استغرق التصفيق مساحة كبيرة من زمن الأغنية.

ولأن أغاني أم كلثوم كان يتم تسجيلها من الحفلات مباشرة، فإن وقتاً كبيراً من الشريط المسجل كان يحمل استجابات الجمهور المباشرة للأغنية، ومن بينها التصفيق الذي كان يشغل في بعض الأحيان ما يقرب من 10% من زمن الأغنية، كما في حالة أغنية «أنت عمري».

تحايل المطربين

وتتيح هذه التسجيلات فرصة حقيقية لدراسة استجابة المصريين للأغاني في فترة مهمة من فترات تاريخهم. وللأسف فإن بعض التسجيلات اللاحقة لأغاني أم كلثوم استبعدت هذه الاستجابات وأبقت على الغناء فحسب.

وعلى النقيض من ذلك كان بعض المطربين المصريين يضيفون فواصل من التصفيق الحماسي على تسجيلات أغانيهم. وكشف الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي في إحدى مقالاته الصحفية التي اختار لها عنواناً دالاً هو «الضحك على المستمعين» أن بعض المطربين المصريين مثل عبدالحليم حافظ، ومحرم فؤاد، ونجاة، كانوا يمارسون خداعاً كبيراً على المستمعين بالتحايل على ضخ إعجاب مستمعين وهميين يصفقون بحرارة لم تحدث خلف كل كوبليه ينهيه المطرب كأنه يغني على المسرح.

ويذكر «الأبنودي» أنه كان من الطبيعي أن يلجأ المطربون لفن المونتاج لإزالة الأخطاء وعورات الغناء، ولكن كان الأهم لديهم إضافة شريط تصفيق كاذب إلى التصفيق الحقيقي بمهارة ما بعدها مهارة، حتى ليختلط علي المستمعين الأمر ولا يستطيعوا تصديق أن تلك الحفاوة الجماهيرية في أغنية كذا إنما هي مجرد «قص ولزق»، وأن الحفل الذي «لعلعت» فيه صاحبة الأغنية لم يكن به جماهير أصلاً، وأن ذلك السيل الهادر من التصفيق هو من شريط سياسي أصلاً لأحد الرؤساء في مناسبة سياسية وطنية معروفة التهبت فيه أكف الجماهير دعماً وتأييداً، تنبه له عباقرة الذكاء الغنائي واستغلوه أسوأ استغلال.

الثمانينات وما بعدها

منذ ثمانينات القرن الـ20، طرأ تحول كبير على الأغنية المصرية بظهور جيل جديد من المغنين يغنون ما أصبح يُعرف بالأغنية السريعة أو الشبابية، ربما كان أبرزهم عمرو دياب. في إطار هذا التحول حل الغناء «الراقص» محل الغناء «التطريبي».

في هذه الأغنيات السريعة الراقصة حدث تحول في وظائف التصفيق الذي لا يزال مؤثراً في الأغنية المصرية والعربية حتى الوقت الراهن. ويمكن تلخيص هذا التحول بأنه تحول من تصفيق «الاستحسان» إلى «المؤازرة».

ففي الخمسينات والستينات كان الجمهور المفتون بالطرب يترك ليديه العنان للتعبير عن استحسانه لما يسمعه، أما في الثمانينات والتسعينات فقد أصبح الجمهور يصفق تلبية لدعوة ملحة مباشرة صريحة من المطرب الذي يقول لهم: صفقوا بكل الطرق الممكنة، فهو يرفع يديه بالتصفيق ويشير إليهم أن يفعلوا مثله، أو يطلب منهم صراحة أن يصفقوا بأعلى صوت مردداً بين كل مقطع وآخر «تصقيفة أعلى.. ياللا علوا التصقيفة».

بل إن بعض المطربين الشعبيين يُحلّف الجمهور أحياناً بـ«النبي» أن يكون تصفيقه أعلى وأقوى قائلاً: «اللي يحب النبي يصقف»، وربما يلجأ كذلك إلى عقد مسابقات تحفيزية على التصفيق، فيقول مثلاً: «سوف نرى من يصفق بشكل أقوى الشباب أم البنات».

يمكن فهم هذا التحول على أنه تحول في طريقة استماع المصريين للأغاني. ففي أغاني التطريب كان الجمهور يتلقى الأغاني جالساً، ساكناً في الغالب، أو يحرك رأسه ويترنم بكلمات الأغنية أو بنغمتها، لكن الأغنية السريعة أحدثت تحولاً في طريقة تلقيها. فبدلاً من التلقي الساكن ظهر ما يمكن تسميته بـ«التلقي الراقص».

فالجمهور لم يعد يستمع إلى الأغنية جالساً، بل واقفاً وربما راقصاً، والتصفيق في هذه الزاوية عنصر مكمل لحالة الرقص التي يتلقى الجمهور الأغنية خلالها.

التصفيق والصفير

هذا التلقى الراقص للأغنية كان وراء شيوع ظواهر مصاحبة للتصفيق أهمها الصفير. وكان الصفير يظهر على استحياء في حفلات الخمسينات والستينات كعلامة استحسان للأغاني، وكان غالباً ما يتم إطلاقه قبل الشروع في الأغنية وفي خاتمتها وأثناء وقفات الاستحسان داخل الأغنية.

ولكن مع بداية الثمانينات، تحول الصفير إلى سلوك شائع في الحفلات المصرية، ويكاد يتحول في الوقت الراهن إلى سلوك منعزل لا علاقة له بالاستحسان، بل يقوم بوظائف مثل لفت انتباه الحاضرين للشخص الذي يصّفر أو على سبيل التحية للمطرب.

لكنه قد يكون أيضاً ممارسة خاصة لا علاقة لها بالمطرب أو الأغنية، فبعض الجمهور – خاصة من الشباب الراقص – يقوم بممارسة سلوكياته الخاصة بمعزل عن الأغنية، فهو يرقص ويغني ويهتف ويصفر على هامش الأغنية.

المصدر

  • كتاب «كيف يصفق المصريون؟». الدكتور عماد عبداللطيف.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية