محمود حبيب يكتب: إمام المسلمين وبئر العبد
بئر العبد.. هذا المكان الذى ارتبط في أذهان المصريين بالحادث البشع الذي حصد أرواح أبرياء، وروَّع آمنين، وأدمى قلوب المصريين والعالم أجمع.. ورغم قساوة ما حدث، وما أحدثه في النفوس، وما خلَّده في أذهاننا، لكنه فى الوقت نفسه ما زادنا إلا إصرارًا وعزمًا على مواجهة هذا الإرهاب السافر، والتصدي له بكل قوة وحزم.
هؤلاء الأبرياء كانوا على موعد مع الشهادة، فقد استعدوا للقاء ربهم روحياً في صلاتهم، ومعنوياً فى الرضا بقضاء ربهم وقدره، فهم قوم خرجوا من ديارهم طاهرين، مُتطهرين، فى خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، قاصدين بيوت ربهم ، تاركين متاع الدنيا والأهل والولد، ليكونوا فى معية إلهية خالصةً، ويستبشرون بالذى هو خير، فكانت الشهادة، وكان اللقاء.. هكذا رآهم العَالِمون، الذين ليس بينهم وبين الله حجاب.
وزاد من البشارة أن كلاً منهم أخذ بيد من يحب، وأسرعوا جميعاً مهرولين للصلاة في الجنة، وكأن مسجد الروضة هو الدرجة الأولى من درجات الصعود، حيث ما إن شرع خطيب المسجد في خطبته، حتى صعدت الأرواح الطاهرة إلي بارئها لتكمل سجودها تحت عرش الرحمن وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
بينما فضيلة الإمام شيخ الأزهر يتأهب ليستقل الطائرة متوجهاً إلى «كوكس بازار» في بنجلاديش على حدودها مع ميانمار، ليُضمد جراح العالقين هناك من مسلمي الروهينجا، الفارين من جحيم الآلة الحربية الغاشمة بسبب التطهير العرقى، أتاه نبأ أبنائه من قرية بئر العبد ليُسرع مُغيِّراً مسار رحلته، ويعود بركبه إلى مكتبه، ليُرسل كلمات اعتصره فيها الحُزن، فكان الطيب إمام الصبر ومأمومه معاً، حيث أدرك أن أبناءه وبناته من أبناء بئر العبد حجبت غيوم الحُزن كلماته عنهم، فقاد ركبه إلى هناك إلى أرض الشهداء، ومسح بكفيه دموع الثكلى واليتامى، وداوت كلماته الرقيقة جراح المرضى والمصابين.
«لسنا بأغلى ممن فقدت هذه السيدة المكلومة».. هكذا رد فضيلة الإمام على قائد الأمن، الذى تخوف من إيقاف موكبه، عندما أصر فضيلته على التوجه إلى أم الشهداء، فلم يكن يشغله وقتها ترتيبات أمنية ولا إجراءات بروتوكولية، ولكن الذي علق بفكره ووجدانه شعور الأب الذي دائماً يعيش بداخله.
وبكلمات عذبة قال كلمته الأغلى والأثمن : «اسمحي لى فى نيل شرف خدمتك» المكانة التي بلغها هؤلاء الشهداء عند ربهم، جعل أكبر رمز ديني فى العالم يطلب أن يكون فى خدمة ذويهم.
أصر الطيب، بعزيمة لا تلين، أن يُكمل الخطبة التي شرع فيها خطيب المسجد، والذي حال الإرهاب الغاشم دون اكتمالها، فجاء فضيلة الإمام ليوجه رسالة إلى هؤلاء الإرهابين، أن هذه الخطبة التي راح ضحيتها الأبرياء لابد أن تُكتمل، ولكنه غيَّر مسار الخطبة وجعلها رسالة أزهرية وطنية فى مواجهة خوارج العصر.
راح الطيب يكشف للعالم حقيقتهم وأوصافهم التي نعرفهم بها وليوضح أن مصر لن تركع أبدًا لغير الله، ومهما كان الحاث جللاً فإن أبناء مصر لن تهزمهم جحافل الإرهاب مستمسكين بدينهم الوسطي لمواجهة فقه دموي خرج علينا من نفوس متصحرة دينياً وإنسانياً، غريب علي شبابنا وأرضنا، وليثبت أن الأزهر جاء ليضع يده في يد أهل هذه البلدة الطيبة المباركة للقضاء على هذا الإرهاب فكريًا وعقائديًا وعلميًا واجتماعيًا، من خلال جملة من الاجراءات اتخذها فضيلته اعتبرها من باب الوفاء فى حقهم ونيل شرف السعي في خدمتهم.