جذور أزمة حلايب وشلاتين مع السودان.. بدايات الصدام من واقع أرشيف وزارة الخارجية

جذور أزمة حلايب وشلاتين مع السودان.. بدايات الصدام من واقع أرشيف وزارة الخارجية

على مدى ما يزيد على ستين عاماً مثّلت أزمة حلايب وشلاتين فتيلاً قابلاً للاشتعال في أي وقت لتعكير صفو العلاقات المصرية السودانية، وبينما كان يتم احتواء هذه المواقف المشتعلة بين الحين والآخر إلا أن الأزمة كانت تطل برأسها عندما تتوتر العلاقات السياسية بين البلدين.

جذور الأزمة التي ظهرت بعد استقلال السودان عن مصر عام 1956، رصدها كتاب «العلاقات المصرية السودانية.. جذور المشكلات وتحديات المصالح» مدعوما بمصادر من أرشيف وزارتي الخاجية المصرية والسودانية.

قاعدة أمريكية

تبلورت الخلافات بين الدولتين بشأن الحدود في أن الموقف المصري كان يرى أن خط حدوده مع السودان محدداً طبقا لخط عرض 22 درجة شمالاً، وذلك طبقاً لاتفاقية الحكم الثنائي المصري البريطاني عام 1899، بينما يرى السودان أن هناك حدوداً إدارية اتُفق عليها في عام 1902، تمر شمال معظم الحدود السياسية، وأن هذه الحدود الإدارية تم العمل بها طوال الستين عاما الماضية.

وبرز الاهتمام بمسألة الحدود مع السودان فور إعلان السودان استقلاله، إذ طلب رئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري في يناير 1956 من الحكومتين المصرية والبريطانية إيضاح الاتفاقات التي أشار إليها اعترافهما باستقلال بلاده.

ومع وجود عرض أمريكي في مارس 1957 للحكومة السودانية بإنشاء قواعد عسكرية في منطقة «مهد قول» المتعارف عليها باسم «حلايب» ضمن استراتيجية أمريكية بتدشين قواعد عسكرية عدة في شرق إفريقيا على البحر الأحمر، انتاب الإدارة المصرية القلق من التوجهات الأمريكية في حلايب، وذلك في ضوء وجود معلومات تشير إلى اتصالات بين عبدالله خليل رئيس الوزراء السوداني - جاء خلفا ً للأزهري - وإثيوبيا والولايات المتحدة لإثارة المشاكل مع مصر في ملف الحدود، وخلق توترات سياسية يستطيع الغرب الاستفادة منها.

من هنا رفضت وزارة الصناعة في مصر طلباً لشركة شرق السودان في نهاية عام 1956 للتنقيب عن المعادن في منطقة حلايب المصرية.

إسماعيل الأزهري

أزمة الدوائر الانتخابية

وفي مطلع عام 1958 تجددت الأزمة على خلفية استعداد السودان لإجراء الانتخابات البرلمانية بها وترسيم اللجان، وكذلك استعداد مصر لإجراء الاستفتاء على الوحدة مع سوريا وانتخاب رئيسها. في تلك الفترة بعثت مصر بمذكرتين للسودان تطالب فيهما بتسليم شؤون الإدارة في المنطقة الواقعة شمال خط عرض 22 شمالاً، وتتضمن قرية «سارة ديبره» و«فرسي» وكذلك المنطقة الواقعة في الصحراء الشمالية الشرقية، والتي تشمل حلايب وما جاورها للإدارة المصرية.

وإزاء هذا الموقف لجأت حكومة السودان إلى التصعيد على المستويين الرسمي والشعبي، كما اتصلت الحكومة بالمعارضة وأبلغتها تفاصيل الموقف، ورفعت الأمر إلى الجامعة العربية.

في هذا السياق بدأ حزب الأمة بحشد الرأي العام بواسطة صحافته ضد مصر. فقالت الصحف إن قوات مصرية اخترقت الحدود السودانية، الأمر الذي نفاه عبدالناصر في برقية عاجلة لرئيس الحزب عبدالرحمن المهدي طالبه فيها باستخدام نفوذه لتقييد هجمات صحافة الحزب على مصر.

وبالفعل استجاب المهدي، إلا أن عبدالله خليل سعى إلى تصعيد المواجهة مع مصر. دعا جميع الأحزاب لمواجهة التحرك المصري، كما طلب من اللجان التنفيذية لكل الأحزاب إعطاء قائمة بالأعضاء السابق أداء الخدمة العسكرية، وقائمة أخرى بأسماء الشبان المستعدين للتطوع مع التأهب للدفاع عن الحدود إذا لزم الأمر، كما دعا حزب الأمة إلى التظاهر في العامة والأقاليم ضد الموقف المصري.

عبدالله خليل

خريطة سودانية

في ضوء هذا التصعيد للموقف طار محمد أحمد محجوب وزير الخارجية السوداني إلى القاهرة واجتمع بعبدالناصر، حيث طلب ضرورة سحب المصريين للجانهم الانتخابية من المنطقة المتنازع عليها حتى تنتهي الانتخابات السودانية، وذلك من دون الإضرار مستقبلاً بأي مطالبات مصرية، لكن عبدالناصر لم يوافق على اقتراح محجوب، واقترح عدم عقد أي انتخابات في الدوائر الانتخابية بالمنطقة محل النزاع.

انتهت زيارة محجوب بالفشل، متأثرا في ما يبدو بموقف زكريا محيي الدين وزير الداخلية في ذلك الوقت الذي قدّم إلى محجوب خريطة رسمية طبّقتها حكومة السودان نفسها عام 1957، وعليها تقسيم الدوائر الانتخابية.

وكانت الخريطة تبرز أن خط الحدود الدولي بين البلدين هو خط 22 درجة شمالاً، وأنه مكتوب على الخط بالإنجليزية «international Boundaries» أي «حدود دولية»، كما أن الخط الذي تقول حكومة السودان إنه الحدود السياسية الدولية مكتوب عليه «Administrative Boundaries» أي «حدود إدارية».

على الرغم من عرض هذه الخريطة على محجوب، إلا أن اقتراح عبدالناصر لم يلق قبولا لدى مجلس الوزراء السوداني، في وقت تصاعدت الحملة الإعلامية ضد مصر للتغطية على توجهات حزب الأمة في إنشاء طريق سريع بين حلايب وعطبرة كجزء من المحاولة الأمريكية لإنشاء القاعدة التي سبق وأن عرضها الأمريكيون في مارس 1957 ضمن خطة شاملة لإنشاء قواعد عسكرية في المنطقة.

حاولت المملكة العربية السعودية التدخل بالوساطة لحل الأزمة المتصاعدة بين البلدين، لكن مساعيها لم تُكلل بالنجاح.

عبدالناصر

تصعيد وهدوء

الشاهد أن حملة حزب الأمة نجحت في تعبئة جميع القوى السياسية السودانية وراء فكرة حماية الوطن إلى حد إعلان حزب الشعب الديمقراطي مساندته الكاملة للخطوات التي تتخذها حكومة السودان.

أما الهيئات السياسية الأخرى فاجتمع ممثلوها وأدانوا الخطوات المصرية في المنطقة الحدودية، وطالبوا بالتفاوض حول المشكلة. حدث ذلك في وقت قدّم مندوب السودان في الأمم المتحدة شكوى ضد مصر بلورها في «إن مصر تتحرك لضم مناطق سودانية إليها» كما طلب اجتماعا عاجلاً لمجلس الجامعة العربية لعرض المشكلة عليه.

شعرت القاهرة أنها جُرت إلى مواجهة مع الغرب، فقفزت على هذه المواجهة بإصدار بيان يقرر إرجاء تسوية الموضوع إلى ما بعد الانتخابات السودانية، وأعلن البيان أن جيش مصر لا يهدد السودان، لكنه على استعداد للمشاركة في الدفاع عنها.

في هذا التوقيت شعرت القاهرة أنها جُرت إلى مواجهة مع الغرب، فقفزت على هذه المواجهة بإصدار بيان يقرر إرجاء تسوية الموضوع إلى ما بعد الانتخابات السودانية، وأعلن البيان أن جيش مصر لا يهدد السودان، لكنه على استعداد للمشاركة في الدفاع عنها.

وإزاء البيان المصري سيطرت على أوساط حزب الأمة مشاعر الابتهاج، فاعتبروا أن مصر فقدت هيبتها في السودان نتيجة تحركاتها غير الناجحة للتأثير في الانتخابات السودانية، كما توقع الحزب الحصول على مزيد من الأصوات نتيجة خروجه من هذه الأزمة منتصراً.

الأزمة المالية السودانية

بقي أمر النزاع الحدودي بين البلدين لغماً موقوتاً، وأسفر عن تسارع وتيرة سوء العلاقات بين مصر وحكومة عبدالله خليل الذي أعرب في مايو 1958 عن رغبته في تخفيض قوة الجيش المصري المُتاخمة لحلايب إلى النصف.

لكن يبدو أن ظروفه الداخلية لم تساعده على الإلحاح في طلبه هذا، خصوصاً أنه كان معنياً أكثر من أي شيء بمساعدة مالية من مصر للسودان، حيث قال خليل في اجتماعه مع السفير المصري إن السودان يمر بضائقة مالية لم يشهدها منذ عام 1932، وهي أزمة بلغت حد الإفلاس، وأن رصيد السودان من الإسترليني لم يتبق فيه سوى 14 جنيهاً.

وقدم خليل اقتراحاً بأن يكون المال المصري إما بزيادة رأس مال بنك مصر في السودان بثلاثة ملايين جنيه يستغلها في إقراض أصحاب المشاريع، أو إقراض الحكومة مبلغاً يتراوح ما بين ثلاثة ملايين إلى خمسة ملايين جنيه.

وعكس هذا النزاع الحدودي نفسه على مسألة اعتراف السودان بالوحدة المصرية السورية التي اعترفت بها 31 دولة. وحازت المسألة جدلاً واسعاً في أوساط الرأي العام السوداني، وجرى التساؤل: كيف يتم الاعتراف بدولة حاولت الاعتداء على حدود السودان؟.

ويمكن القول أن النزاع الحدودي دشّن حساسيات مصرية سودانية بالغة التعقيد، ربما يكون قد عكسها ذلك اللقاء العاصف في 21 فبراير 1959 بين محمد عثمان ياسين الوكيل الدائم للخارجية السودانية، والسفير المصري محمود سيف اليزل خليفة، حيث تحول رفض تسلم اليزل مذكرة احتجاج على مقالة لأنور السادات في مسألة الحدود إلى مشادة كلامية حادة جاوزت الأعراف الدبلوماسية.

المصدر

  • كتاب «العلاقات المصرية السودانية. جذور المشكلات وتحديات المصالح». أماني الطويل.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية