هكذا غيّر الصعايدة والفلاحون أخلاق أهل القاهرة في زمن المماليك

هكذا غيّر الصعايدة والفلاحون أخلاق أهل القاهرة في زمن المماليك

شهدت مصر خلال العصر المملوكي موجات هجرة داخلية من الوجهين البحري والقبلي إلى القاهرة لأسباب اختلفت من فئة لأخرى، إلا أن العامل المشترك بين هؤلاء المهاجرين تمثل في رؤيتهم للقاهرة باعتبارها ملاذاً وطوق نجاة من مظالم وأعباء ثقيلة.

فئات عديدة

أسباب كثيرة كانت وراء نزوح المصريين من الصعيد والوجه البحري إلى القاهرة، منها أنها غدت منذ البدايات الأولى لعصر المماليك (1250 – 1517) أهم صرح للثقافة والحضارة العربية في العالم الإسلامي، ومن ثم مثلّت قبلة لطلاب العلم الذين وفدوا إليها من الأقاليم.

ما شجع الطلاب أكثر على النزوح في طلب العلم - خاصة منذ عهد الظاهر بيبرس - هو الاهتمام الشديد بتوفير تجمعات معيشية وسكنية واجتماعية ومذهبية لطلاب العلم.

غير أن أصحاب الحرف أيضاً عرفوا وجهتهم إلى العاصمة بسبب تدهور الصناعات، وغلق باب التصدير، وارتفاع الأسعار، واختلال الأمن نتيجة ثورات الريف وتوقف العمل بالمناجم والمحاجر في الوجه القبلي وكذلك مصايد الأسماك.

ولم يكن الفلاحون أحسن حالاً، فنزح كثير منهم إلى القاهرة بسبب تدهور النظام الإقطاعي منذ عصر خلفاء الناصر محمد بن قلاوون، وتدهور الإنتاج الزراعي بسبب المظالم والمغارم التي وقعت عليهم وتعرضهم لبطش العربان المسلح، وزيادة الأعباء المالية على كاهلهم. بينما نزح التجار بحثاً عن الربح الوفير بسبب انتعاش حركة التجارة في القاهرة لما لها من علاقات تجارية مع آسيا وإفريقيا وأوروبا.

أماكن النزوح والتركز

والملاحظ أن المناطق التي نزح المصريون منها إلى العاصمة شملت جميع أنحاء الديار المصرية، سواء من الوجه القبلي أو البحري، حيث كانوا يكنون أنفسهم بالبلاد التي جاءوا منها مثل الفيومي، والسوهاجي، والإسكندراني، والفارسكوري.

وساعدت موجات النزوح المستمرة إلى ظهور كثير من المناطق العشوائية مثل تلك التي تقع بين باب الشعرية وباب الحديد والتي عُرفت بـ«باب البحر»، وكذلك في وسط القاهرة وتُعرف بـ«الحنفي» نسبة إلى الشيخ شمس الدين محمد بن حسن بن على الحنفي، حيث أنشأ بها جامع الحنفي سنة 817 هـ.

وتشمل قائمة أماكن التركز أيضاً «حارة السقائين»، بمنطقة عماد الدين نسبة إلى الشيخ عماد الدين الذي أنشأ جامعاً هناك، وكذلك «غيط العدة» بالقرب من منطقة باب الخلق حالياً، إضافة إلى «الطحانين» والملاصقة لسور مجرى العيون.

بيد أن هذا النزوح أدى إلى نمو القاهرة في جميع الاتجاهات تقريباً، ففي الغرب حدثت ثلاث عمليات لـ«طرح النهر» أي ظهور أراض جديدة نتيجة انخفاض منسوب النيل، فظهرت منطقة بولاق التي كان بها أسواق وحمامات ضخمة.

وفي شرق القاهرة تطلبت المنشآت العديدة لسلاطين وأمراء المماليك قيام أحياء سكنية لخدمة وصيانة هذه المنشآت، أو لاستغلالها، بينما شهد جنوب القاهرة «منطقة القرافة الحالية» ازدهاراً عمرانياً ضخماً، لدرجة أن بعض الرحالة وصف هذه المنطقة بأنها غدت مثل الإسكندرية لما اشتملت عليه من مدارس وجوامع وأسبلة وحمامات ومساكن.

وفي منطقة وسط القاهرة أضيف حي جديد هو حي الأزبكية نسبة إلى الأمير أزبك أحد أمراء السلطان قايتباي، الذي بدأ في إنشائه سنة 1840، كما تم التوسع في المنطقة المعروفة منذ ذلك العصر بـ«غيط العدة» و«عماد الدين» وكذلك «البندقانيين» و«الخشابين» و«الزجاّجين» - ما بين الدرب الأحمر وباب الخلق حالياً – إلى جانب منطقة «تحت الربع» من خلال إنشاء كثير من المباني من مساجد، وحمامات، ومدارس وغيرها، إضافة إلى التوسع في مناطق «الكبش»، و«السيدة عائشة»، و«الروضة»، و«المنيل» حالياً.

صراع قيم

وأضفى هؤلاء النازحون الطابع الريفي على كثير من أحياء القاهرة المملوكية. تمثل ذلك في وجود كثير من العشش لتربية الأنواع المختلفة من الطيور، وهو ما لفت أنظار كثير من الرحالة الأجانب طوال ذلك العصر من أمثال الرحالة «سيجولي» الذي قال: «ليس هناك شباك إلا وتجد فيه عشاً لهذه الطيور».

كما تركوا تأثيراتهم في طباع أهل القاهرة وسلوكياتهم وأخلاقهم. وصفهم الرحالة بيلوتي الكريتي بأنهم «يميلون دائماً إلى المسالمة والوداعة ويبتعدون عن المشاحنات، وهم على جانب كبير من الظرف، ومعتدلون في كل شيء خاصة مساكنهم، وليسوا شديدي الانفعال والتأثر، كما أنهم يتعاملون بتعاطف شديد وحرارة مع من يقابلهم، ولديهم قدر كبير من القناعة، ولذا فهم يعيشون في سعادة يفتقدها الكثيرون».

وربما قاد ذلك إلى ظهور «صراع القيم» بين هؤلاء النازحين والمجتمع القاهري، وكان لكثير منهم دور في اشتداد تيار النقد الاجتماعي للمجتمع المملوء بمواضع النقد، فمنهم من نقد المستخدمين وفضح أعمالهم وهتك أسرارهم، ومنهم من انتقد الأتراك واستئثارهم بالرزق، ومنهم من انتقد الصوفية، ومنهم من انتقد العادات والتقاليد الفاسدة والمجون والخلاعة، أي أنهم عبروا عن أخلاق القرية في مواجهة الفساد المنتشر في المجتمع الجديد الذي نزحوا إليه.

الحرافيش والعُياق

لكن أخلاق القرية لم تمنع انضمام بعض النازحين إلى «الحرافيش»، أو «الزُعر»، أو «العياق»، والمقصود بهم الدهماء والرعاع وضعاف الخلق. وهؤلاء كثيراً ما كان يستعملهم الأمراء والسلاطين ضد منافسيهم، فكانوا ينهبون منزل المغلوب، وسرعان ما ينقلبون على الغالب إذا ما بدأ نجمه في الأفول.

ورغم ذلك لم يقتنع هؤلاء دائماً بأن يكونوا أداة لمن يغدق عليهم، بل كثيراً ما ثاروا ضد بعض رجال السلطة، إما بسبب التلاعب في العملة، أو ارتفاع الأسعار، أو نقص المواد الغذائية، أو لتغيير بعض الولاة الظالمين، لدرجة أنه إذا مات أحد الولاة الظالمين، دفنته الدولة في مقابر المسيحيين خوفاً عليه من أن يحرقوا جثته لظلمه وتعسفه.

كذلك كان لهم دور في مساندة الجيوش المملوكية بانضمام بعضهم كقوات مساعدة ضمن الجنود خاصة في عصر الجراكسة.

شعراء وجزالون

على أن ذلك لا ينفي أن من بين هؤلاء النازحين وُجد شعراء، فمنهم من التقط بعض الأمثلة ونظمها في شعره، فكثرت في أشعارهم اللقطات السريعة التي كثيراً ما تكون تعليقاً ساخراً على الأحداث، وما تتميز به من روح الفكاهة وسرعة الخاطر، وكثيراً ما جعل  شعراؤهم من أنفسهم موضع السخرية، فيصور الواحد منهم نفسه في صورة الجاهل أوالأحمق أو الأبله الذي لا يكاد يفقه شيئاً.

وبينما اصطنع كثير منهم المواويل، نظم آخرون الزجل الذي لمعت فيه أسماء كثيرة مثل شرف الدين بن أسد، وإبراهيم المعمار، وأبو عبدالله خلف الغباري، وكان لهؤلاء مكانة كبيرة في نفوس الشعب المصري لدرجة أن من يلمع اسمه في هذا الفن يسمونه «قيما».

واخترع النازحون نوعاً من الزجل يسمى «البلاليق»، وهو لون يتضمن الهزل والخلاعة، ونظراً لسيرورتها وخفتها على الألسنة عمد الزجالون إلى تضمينها نقداً لاذعاً للنواحي السياسية والاجتماعية.


المصدر

  • كتاب «بحوث في التاريخ الاجتماعي من العصر المملوكي». الدكتور على السيد علي.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية