كله على الهواء.. حكايات مثيرة عن أول بث للتلفزيون المصري
في ليلة 21 يوليو 1960 ظهرت أول صورة على التلفزيون المصري للرئيس جمال عبد الناصر وهو يخطب في مجلس الأمة بمناسبة ذكرى ثورة يوليو، ليحقق بذلك حلماً كبيراً من أحلامه آنذاك.
كتاب «صنايعية مصر» للصحفي عمر طاهر تضمن فصلاً عن سعد لبيب أحد أهم المشرفين على إنشاء التلفزيون. ويذكر «طاهر» في كتابه أن الرئيس الراحل كان يحلم بإطلاق التليفزيون قبل أن ينتهي عام 1960 إدراكاً منه بأهمية هذا الجهاز في كسب تأييد المصريين لأفكاره، وسعى بكل ما أوتي من جهد ووقت لافتتاحه في عيد الثورة، لدرجة أنه عندما تأخرت المراكب التي كانت ستنقل المعدات اللازمة من الخارج أصدر أوامره للسلاح الجوي بنقلها.
تصميم «ناصر» لم يأت من فراغ، وإنما بعد فشل أو بالأدق تأجيل تنفيذ المشروع الذي كان مقرراً أن يبدأ بثه في منتصف عام 1957. روى «طاهر» أن عضو مجلس قيادة الثورة صلاح سالم تقدم عام 1954 بمشروع للرئيس الراحل لإنشاء محطة تلفزيونية فوق جبل المقطم، وسارت الحكومة في إجراءات التنفيذ لكن العدوان الثلاثي الذي شنته إنجلترا وفرنسا وإسرائيل عام 1956 حال دون تحقيق الحلم.
لجنة التأسيس
لكن المعدات لم تكن العقبة الوحيدة التي وقفت في طريق ولادة التلفزيون المصري، وكانت هناك عقبة أخرى تتشكل وتكبر يوماً بعد يوم على خلفية تباين رؤى أعضاء اللجنة الموكل لها مهمة التأسيس بشأن ما سيقدمه هذا الجهاز للمصريين.
بحسب «طاهر» كانت اللجنة مكونة من جميع الأطياف، فضمت من الإذاعة أسماءً مثل تماضر توفيق، وصلاح زكي، ومن المسرح نور الدمرداش وكمال يوسف، ومن الهندسة الإذاعية صلاح عامر، ومن السينما كمال أبو العلا وأحمد كامل مرسي، وكان كل فريق يعتبر أن التليفزيون سيقدم الفن الذي يعمل به ويقدمه، وبالتالي سعت كل مجموعة لفرض ما تنتمي إليه على هذا الوافد الجديد.
تزايدت الخلافات بين الأعضاء، إلي أن تولي سعد لبيب منصب سكرتير عام التليفزيون وسعى لحل هذه الخلافات ونجح في ذلك بالفعل من خلال التوفيق بين الرغبات.
وبحسب «طاهر» بدأ بث التلفزيون بقناة واحدة ولمدة أربع ساعات فقط، وكان الشيخ مصطفي إسماعيل هو أول مقرئ يظهر علي الهواء، وكان أوبريت «وطني الأكبر»، الذي شارك فيه عدد كبير من نجوم الغناء العربي آنذاك، هو أول عرض كبير ينتجه التليفزيون ويقدمه في أول يوم.
ضعف الإرسال
تجاوز التلفزيون كل العقبات التي واجهها وخرج للنور، لكن عقبات أخرى كانت في انتظاره بعد ذلك. يروى الدكتور محمد المرسي أستاذ الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة لـ«شبابيك»، أن إرسال التلفزيون في البداية لم يكن يتجاوز 100 كيلو متر في جميع الاتجاهات، ما يعني أن مشاهدته كانت قاصرة على القاهرة وبعض المناطق المجاورة لها، بينما باقي الأقاليم والمناطق الحدودية كانت محرومة من ذلك.
وفي مراحله الأولى لم يعرف التلفزيون تقنية تسجيل البرامج قبل إذاعتها، ولكن كان البث على الهواء مباشرة، وبالتالي كانت تحدث مفارقات مضحكة سواء أثناء وقفة الضيف أو مقدم البرنامج أو المتحدث، وكذلك لعثمته في الكلام وهي أشياء كانت تُنقل إلى الجمهور كما هي وتثير ضحكاتهم، وفقا لـ«المرسي».
شاشات عرض
مشكلة أخرى حالت دون انتشار هذا الجهاز بين الجماهير وأدائه للوظيفة التي أرادها عبد الناصر في نشر أفكاره بين الطبقات البسيطة. روى رئيس الإذاعة المصرية الأسبق حمدي الكنيسي لـ«شبابيك»، أن شراء التلفزيون كان أمراً صعباً وشاقاً من الناحية المالية على كثير من الأسر المصرية في ذلك الوقت، لذا اتجهت الهيئة العامة للاستعلامات إلى إقامة شاشات عرض في ميادين الأقاليم المختلفة، وكذلك في قرى الصعيد والوجه البحري سواء في مقار الجمعيات الزراعية أو الوحدات الصحية، حتى يتعرف المواطنون البسطاء على التلفزيون ويتابعون نشرات الأخبار والبرامج التوعوية.
ولجذب المصريين لمشاهدة التلفزيون، استعانت الدولة بفنانين لتقديم بعض البرامج الفنية والحوارية الخفيفة، مثل سعاد حسني التي قدمت برنامج «مجلة الأغاني»، لكن لم يكن ذلك سمة عامة سار عليها المشرفون على التلفزيون بعد ذلك، بحسب ما يقول «الكنيسي».
برامج متنوعة
التوفيق بين رغبات أعضاء لجنة تأسيس التلفزيون ظهر في خريطة البرامج. يذكر «طاهر» في كتابه أن: «المخرج السينمائي كمال حسين وضع لمسته بأن أخرج أول حلقات (نادي الشباب) من تقديم أماني ناشد، ثم قدمت فرقة رضا الرقصات الشعبية، وقبل أن ينتصف الليل تم تقديم أول نشرة أخبار استمرت ثلاثين دقيقة، وتبادل قراءة الأخبار فيها عدة أسماء أبرزها همت مصطفي التي أصبحت فيما بعد أول سيدة تعين كبيرة للمذيعين في التليفزيون المصري».
لكن الإمكانيات المحدودة حالت دون تقديم الخدمة بشكل جيد. ذكر «طاهر» أن نشرة الأخبار مثلاً كانت تذيع الخبر فيما بين 24 إلي 48 ساعة من وقوعه، وكان عدد العاملين في مختلف القطاعات محدوداً.
وخلال فترة قليلة تضاعفت ساعات البث، وأعقبها قرار بإنشاء القناة الثانية. ويقول «المرسي» إنها كانت موجهة بالأساس لأفراد الجاليات الأجنبية في مصر، فكانت تذيع نشرات الأخبار باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكذلك الأفلام الأجنبية إضافة إلى حفلات دار الأوبرا وبعض البرامج الثقافية المتنوعة.
وبسبب تلك التطورات السريعة، كما يذكر «طاهر»، «انتقلت الكاميرات إلي ملاعب كرة القدم ونقلت المباريات لأول مرة، في الوقت نفسه كانت هناك مباراة أخري من أجل العثور علي أفضل فكرة وشكل يظهر به علي الشاشة رموز مصر، فسهرت مصر تتونس بحوارات طه حسين، وعباس محمود العقاد، وعبدالرحمن الشرقاوي، وغيرهم، ثم ظهرت تجارب تلفزيونية في بلاد عربية أخري وكان قوام برامجها الشرائط التي تحمل هذه الكنوز».
ظهور الرئيس
ورغم أن التلفزيون كان حُلماً من أحلام «ناصر» التي لم يتنازل عنها، إلا أنه كان قليل الظهور علي شاشته. وكانت تعليمات الرئيس الراحل أن «يتم تصوير المقابلات المهمة فقط، وحذف صورته من الأفلام الإخبارية التي تعرض بالخارج، حتي لا يعطل نشر صورة مصر في الغرب الذين يكرهون ناصر. كان يريد أن يقطع الطريق علي من يري مصر و عبد الناصر شيئا واحداً»، بحسب «طاهر».