«توقفوا عن تقييمي، تقبلوني كما أنا، لا كما تريدون لي أن أكون» أن تكون عباس العبد
«من أنا؟.. أنا هو أنا ولدي أسبابي، وليس لدي ما يجعلني ممتنًا لك أو لغيرك، كل طموحي أن أبقى وحدي سليمًا وأن يذهب العالم كـ((Packageإلى الجحيم!».
هكذا يفتتح أحمد العايدي روايته الوحيدة حتى الآن، والتي برغم مرور ما يقرب من العشرين عام على صدورها، إلا أنها تبقى واحدة من أهم الأعمال المعاصرة.
وصفتها جريدة «الأهرام ويكلي» بأنها الإنجاز الأدبي الأكثر شهرة لجيل الألفية، كما تعددت طبعاتها والأهم ترجماتها إلى سبعة لغات حية في تفرد نادر. كيف نالت الرواية كل هذه المكانة؟
التمرد والتفرد.. على الأدب كل شيء!
قد تبدو لك في البداية قصة (ملخبطة) ليس لها رأس من ذيل، تحكي عن أشياء معتادة ليست بجديدة بين مجموعة شباب، لكنك مع الوقت تكتشف الثقل الأدبي خاصة مع النهاية.
كان سر الرواية الأكبر في التفرد والتمرد، لدرجة أنها بشكل ما تمردت على الأدب المعروف نفسه، فالمؤلف قالها على لسان بطله «أنا هو أنا ولدي أسبابي» ويبدو أنه قرر استخدام أدبه الخاص بأسبابه الخاصة.
الرواية لا تلتزم بالشكل الطبيعي للعمل الفني من بداية ثم وسط ثم نهاية، بل تسرد الأحداث بشكل عشوائي من هنا وهناك، لدرجة تصيبك بالدوار لكنك تبقى مستمتًعا، الكاتب يحكي كما يشاء وعليك فقط أن تنبته!
يدمج الكاتب العامية والفصحى في خليط متجانس لا يمكن وصفه إلا بالصادم، مع الكثير من الكلمات الإنجليزية واللهجة الشعبية شبه السوقية، وكأنك خلطت نجيب محفوظ مع أحمد فؤاد نجم في شخص واحد، تخيل أن يبدأ الكتاب بجملة (مقدمة يمكنك لحسها أو تخطيها!)
هكذا تفرد أحمد العايدي وتمرد في أسلوب حكايته للرواية، ولكن كيف تفرد في الأحداث نفسها وحطم جدار الحقيقة ليعبر عن جيل بأكلمه من الشباب ربما لا يزال موجودًا حتى الآن؟!
أن تكون.. عباس العبد
الرواية يحكيها البطل بنفسه في سنة 2003، هو شاب مصري مسالم إلى حد كبير، لا يرغب في مغامرات خطرة ولا يمتلك آراءً استثنائية في الحياة، لكن القدر يرسل له فجأة الشخص المعاكس له في كل شيء.. عباس العبد.
من هو عباس العبد؟، هو التمرد في صورة إنسان، والساخر من كل شيء تقريبًا، لا ينطق إلا ليقذف بلسانه آفة مجتمعية يراها أمامه، من أبسط الأشياء إلى أكبرها.
فلسفة عباس العبد وصديقه تناولت عددًا من القضايا بصراحة صارخة كالآتي:
الطبقية
في إحدى جولات البطل في (ميكروباص) عادي، يلمح ثريًا يقود سيارته وفي الوقت نفسه لا يتوقف عن العربدة كلما سنحت الفرصة مع امرأة بجواره، المشكلة التالية عندما اقتربت منه طفلة فقيرة تبيع المناديل.
دفعها الثري بقوة من نافذة سيارته، لتقع على الأرض باكية وتتناثر علب المناديل من حولها، يعقب البطل قائلاً بسخرية مريرة «غدًا تتحول هذه الطفلة إلى جسد من دوائر يقبل الإهانة هندسيًا من أي مستطيل حقير».
الوساطة
في أكثر من موضع، يهاجم عباس العبد فساد المجتمع والشرطة تحديدًا في وقته، خاصة حين يتركه عسكري المرور حين يشك أنه (مسنود) وفي مرة يسأل عباس القارئ «أجربت أن تكسر إشارة حمراء أمام لجنة مرور مثقلة بالرتب دون أن (مش عارف أنا مين؟) أو رئيس دولة ما؟».
التمسح في الماضي
يتسائل عباس باستهزاء عن سبب تسمية السجائر الشهيرة باسم الملكة كليوباترا، ومن ناحية أخرى يُسمى المشروب الكحولي الشهير باسم «سقارة»!
هذه المرة يهاجم التمسح بالتاريخ والماضي دون اهتمام بالحاضر أو المستقبل، فيبقى المجتمع أسيرًا للأمجاد السابقة وحسب، دون عمل أمجاد جديدة.
التبعية
مرة أخرى يؤكد عباس على رفض التبيعة والتمسح بالآخرين وانتظار رأيهم، فهو يقول بصراحة «توقفوا عن تقييمي، تقبلوني كما أنا، لا كما تريدون لي أن أكون»
هذا الداء قد يجعل صاحبه يسير خلف الآخرين دون اهتمام بشخصيته الحقيقية، كما يعبر عباس للقارئ قائلاً:
«أفق قبل أن تستيقظ من نومك في يوم ما لتكتشف - ربما في عيد ميلادك ال 40 ـ أنك تخشى الموت كالجحيم، لا لأنك تخاف أن تموت بل لأنك: (خايف تموت وأنت حاسس أنك معشتش؟)».
القصة نفسها
ليست الرواية في النهاية مجرد نقد صريح للمجتمع وتعبير عن مشاعر جيل الألفية كما يراه البطل فقط، بل هناك نسيج أدبي محكم رغم العشوائية في الكتابة.
عباس العبد يحاول أن يجعل صديقه البطل أكثر جرأة فيعرض عليه علاقة مع فتاتين ليختار منهما ما يريد، خاصة إن الفتاتين مختلفتين في كل شيء، إحداهما من بيئة شعبية والأخرى طالبة بالجامعة الأمريكية.
يحاول البطل التوفيق بين البنتين ولكن هذه الخطة تنقلب على الجميع في النهاية، والأكثر مفاجأة للقارئ هي حقيقة عباس والبطل نفسه، هل هما مجرد صديقين أم يتداخل قدرهما بطريقة أكثر تعقيدًا؟
ما علاقة الفوبيا والأمراض النفسية بهذا المجتمع وهذه الشخصيات؟، هنا نترك لك فرصة اكتشاف كل هذا بنفسك حتى لا نحرق النهاية واللغز الأساسي للعمل.
بقى أن نشير إلى اختلاف الآراء بشدة حول الرواية، فالبعض يصفها أنها تحفة أدبية بامتياز، والبعض يراها غير قابلة للقراءة أصلاً، هذا التفاوت في الرأيين يؤكد فكرة التمرد التي ذكرها البطل كثيرًا «توقفوا عن تقييمي، تقبلوني كما أنا، لا كما تريدون لي أن أكون».