نجيب محفوظ يحكي عن يوم الفوز بنوبل.. قابل سفير سويسرا بـ«البيجامة» وهرب من مهنئيه للحرافيش
13 أكتوبر 1988 لم يكن يوماً عادياً، ففيه أُعلن نبأ فوز الأديب الراحل نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ليتحول بيته إلى ساحة من المهنئين ومقصداً لوسائل الإعلام المحلية والعالمية. أديب نوبل سرد ذكريات ذلك اليوم للناقد الأدبي رجاء النقاش، والذي دونها في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ».
يقول «محفوظ»: لم أضع جائزة نوبل في ذهني أبداً، وأحمد الله على ذلك، فلو كنت أعطيتها اهتماماً مبالغاً فيه، لكان حدث لي «حرق دم» من متابعتها سنوياً، أو من انتظار وصولها إلىّ.
مجرد هلوسة
حتى يوم إعلان الجائزة الخميس 13 أكتوبر 1988، لم يكن عندي أي توقع للفوز بها. ذهبت إلى جريدة الأهرام كعادتي، وجلست مع الأصدقاء والزملاء، وتحدثنا في موضوعات شتى، كان من بينها «جائزة نوبل» المنتظر إعلانها في ذلك اليوم، وقلت لهم إننا سوف نقرأ في الصفحة الأولى من «الأهرام» يوم غد الجمعة خبراً صغيراً عنها كالمعتاد، ونعرف من فاز بها.
عدت إلى البيت، وكانت زوجتي بمفردها ترتدي زي المطبخ وتكاد تنتهي من إعداد الغداء، أما ابنتاي فهما في عملهما. تناولت الغداء ودخلت غرفة النوم لأستريح، ولم تمض دقائق معدودة إلا ووجدت زوجتي توقظني من النوم في لهفة: «قوم.. قوم.. الأهرام اتصلوا بيك وبيقولوا إنك أخذت جائزة نوبل».
استيقظت وأنا في غاية الغضب، معتبراً كلام زوجتي مجرد هلوسة خاصة بها، لأنها منذ عدة سنوات سابقة وهي دائمة الحديث عن جائزة نوبل وأحقيتي في الفوز بها. وكنت أقول لها إنني أرجوها أن «تعقل» وتفهم أن الجائزة ليست سهلة المنال، كما أنني لا أفكر فيها، ورجوتها ألا تاتي بسيرتها أمامي.
«البيجامة» والسفير
وفيما أتكلم مع زوجتي دق جرس التليفون، وكان المتحدث محمد باشا الصحفي بالأهرام، وبادرني بالتهنئة: «مبروك يا أستاذ»!. فرددت عليه: «خير إن شاء الله». قال لي إنني فزت بجائزة نوبل، فلم أصدقه، فأعطى سماعة التليفون إلى سلامة أحمد سلامة مدير تحرير الأهرام الذي حدثني بصوت تملؤه الفرحة: «مبروك يا أستاذ.. شرفتنا».
حتى تلك اللحظة كنت أظن أنها مجرد دعابة من «باشا»، ولكن لم تمض سوى دقائق معدودة، كنت أجلس خلالها في فراشي محتاراً أو غير مصدق، حتى دق جرس باب الشقة.
فتحت زوجتي الباب وهي بملابس المطبخ، ودخل رجل طويل ومعه مجموعة من المرافقين، فنهضت من فراشي إلى الصالة مرتدياً «البيجامة»، ونظرت إلى الرجل الذي حسبته في البداية صحفياً، وفوجئت بأحد مرافقيه يقدمه لي: «سعادة سفير السويد وحرمه».
هنأني السفير وقدم لي هدية رمزية عبارة عن قدح من البنور أشبه بصناعات خان الخليلي، واستأذنت منه ودخلت غرفتي وارتديت بدلة، لأنني تأكدت أن المسألة جد.
وبمجرد انصراف السفير تحولت شقتي الصغيرة إلى شيء أشبه بالسوق. صحفيون ومصورون ومهنئون وفرحة غامرة في المكان، وأحاديث صحفية سريعة، والتليفون لا يتوقف عن الرنين. وكانت زوجتي في غاية الحيرة وهي وحدها في المنزل تحاول القيام بواجب الضيافة قدر استطاعتها.
عرفت إحدى ابنتي خبر فوزي بجائزة نوبل من زملائها في العمل، ولذلك لم تفاجأ بالمظاهرة التي وجدتها في البيت لدى عودتها. أما ابنتي الأخرى فقد عادت من عملها وهي لا تعلم بالأمر، فلما دخلت الشقة، ووجدت بابها مفتوحاً على مصراعيه، وفي الداخل عشرات الناس أصيبت بالفزع الشديد وظنت في البداية أن أنبوبة البوتجاز انفجرت، أو أن كارثة وقعت، فكاد يُغمى عليها لولا أن تدارك المجتمعون في بيتي الموقف وأخبروها بالنبأ.
سهرة الحرافيش
رجعت مرة أخرى مكتبي في «الأهرام» حيث اُلتقطت لي مئات الصور الفوتوغرافية مع الزملاء والمهنئين. ووسط هذا الضوضاء تذكرت سهرة الحرافيش، فموعدها الخميس كالمعتاد، فقررت العودة إلى منزلي، حيث نسيت علبة سجائري، فأحصل عليها وأنطلق بعدها إلى الحرافيش.
وصلت إلى المنزل ففوجئت بمظاهرة أمامه. عدد كبير من الصحفيين ورجال الإعلام وكاميرات التلفزيون، فخشيت إن دخلت ألا أتمكن من الخروج مرة أخرى، فرجعت وذهبت للحرافيش وعدت إلى البيت الساعة الواحدة والنصف صباحاً.
اقتربت من باب الشقة ولاحظت أن كل أنوارها مضاءة، فدخلت لأجد زوجتي وابنتي في وسط الصالة، ومعهن ستة من الأجانب أخبرتني زوجتي أنهم صحفيون ومرتبطون بالسفر في الصباح، ولابد أن يجروا معي أحاديث صحفية، وسلمت أمري لله وجلست معهم وأجبت على كل الأسئلة التي طرحوها. لم تعرف جفوني النوم في تلك الليلة، وظللت مستيقظاً حتى مطلع النهار.
وأذكر أن الرئيس حسني مبارك اتصل بي في منزلي عقب إعلان خبر فوزي بجائزة نوبل بساعات، وتحديداً قبل نزولي إلى سهرة الحرافيش، وهنأني بالجائزة، وكان حواري معه من طرف واحد، طرفه هو، لأنني لم أكن أسمعه جيداً لضعف في أذني اليسرى. تماماً مثلما لم أسمع ممثل لجنة نوبل، الذي اتصل بي ولم أعرف ما الذي قالاه بالضبط، ولم أتمكن بالتالي من الرد عليه، ولم أقل له إنني لا أسمعه، لأن الموقف كان محرجاً للغاية.