حروب الردة والخلافة أبرزها.. مسائل أشعلت حروب المناظرات بين الصحابة بعد وفاة النبي
مسائل جدلية متنوعة فرضت نفسها على الفترة التي أعقبت وفاة النبي، بدءًا من الارتياب في موته وانتهاءً بمناظرات التحكيم بين على بن أبي طالب ومعاوية بن سفيان، مروراً بأحداث أخرى كان لها تداعيات على المشهد السياسي في العصور التالية. الدكتور مصطفى سليم استعرض أهم هذه المسائل في كتابه «المناظرة والحجاج».
وفاة الرسول ودفنه
في السنة الحادية عشرة من الهجرة وافت النبي المنية، وظهرت عدة منازعات ومناقشات أثرت بشكل محدود أدب المناظرة، ومنها اختلاف الصحابة حول موته، فاختلفوا هل مات رسول الله أم لا؟، وأصاب عمر بن الخطاب الذهول حتى إنه ومن أثر الصدمة، ظن أن النبي ذهب إلى ربه أربعين ليلة كما ذهب قبله النبي موسى بن عمران، وسيرجع بعد انقضاء الليالي الأربعين كما رجع موسى.
إلى أن جاء أبو بكر الصديق، ووضع القول الفصل قائلاً إن من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وعلى هذا النحو انتهى الأمر.
لكن الصحابة اختلفوا أيضا على موضع دفن النبي، فمنهم قائل بدفنه في مكة حيث مولده ومسقط رأسه، وبها مشاعر الحج، وبها نزل الوحي، بل إن قبر جده إسماعيل بأم القرى أيضا، ومنهم قائل بدفنه في بيت المقدس، إذ أن به مقابر الأنبياء ومشاهدهم، وطائفة قالت بدفنه في المدينة حيث موضع هجرته وأنصاره، وإذ بالصديق ينهي النقاش بقوله «إن الأنبياء يُدفنون حيث يُقبضون».
مانعو الزكاة
ولم يدم النقاش طويلاً في أمر مانعي الزكاة، وتناظر عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت مع أبي بكر الصديق في جمع القرآن حينما استشهد كثير من حملة القرآن في حرب أهل اليمامة.
خلافة النبي
وإذا كانت هذه المسائل الخلافية ما لبثت أن اختفت، فإن مسألة الخلافة كانت من المسائل التي كادت تزلزل المجتمع آنذاك، ولعل مناظرة الأنصار والمهاجرين في سقيفة بن ساعدة كانت أولى المسائل التي كان لها أثر يُذكر بأدب المناظرة، فقد دارت المناقشة بين المهاجرين والأنصار على أيهم أحق بالخلافة.
واستند الفريق الأول إلى أنهم آووا الرسول ونصروه في حين كذّبه أهله طيلة ثلاثة عشر عاماً مدة دعوته بمكة، وقدّموا عنهم سعد بن عبادة للمبايعة، بينما استند المهاجرون إلى أنهم «قوم رسول الله وأهله وعشيرته وأول من عبد الله في الأرض».
وظلوا يتبادلون الآراء والأفكار ويتدارسونها فيما بينهم، وكان من بينها أن قالت طائفة منهم: «منا أمير ومنكم أمير»، ورفض سعد بن عبادة حين سمع هذا القول قائلا: «هذا أول الوهن»، إلى أن استقر الأمر على أن يكون أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين، واستقر أمر البيعة له.
الردة وفتح الشام
استقر أمر الدولة في زمن الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب سياسيا واجتماعيا إلى حد ما، ورغم الاستقرار النسبي فإن العرب مروا بأحداث كادت تعصف بهم، وكان لها صدى بأدب المناظرة، منها أحداث الردة زمن الخليفة الأول، وبعض المسائل التي لم يكن للمسلمين آنذاك عهد بها، كالمسألة القدرية التي أثيرت زمن عمر بن الخطاب.
يروي الطبري في «تاريخ الرسل والملوك» أنه في عام 17 هـ خرج عمر بن الخطاب إلى أرض الشام، وكان الوباء شائعا آنذاك، واقتضت الحكمة أن ينسحب الجنود لئلا يُلقوا بأنفسهم في هذا الوباء.
تأمل عمر الواقع واقترح رجوع الجنود خوفا من أن يقعوا بين براثن الوباء، وتشاور معهم في الأمر، ولكن أبى المهاجرون أن يسمعوا صوت الحكمة في بادئ الأمر، حيث قالوا له «خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك»، بينما أيّد بعضهم رأي الخليفة وإن كانوا قلة، في حين قبل مهاجرو الفتح حُجة الخليفة قائلين «ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء».
ومهما يكن، فقد كان ما سبق مشاهد تمهيدية للمسألة القدرية التي دارت بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، فحينما صرّح عمر بقرار الرجوع نهض أبو عبيدة ليقول: «أفرارُ من قدر الله؟!»، وكادت الكلمة تشق الصفوف، فلم يكن يعرف المسلمون بعد مثل هذه المسائل، لولا أن احتواها عمر بن الخطاب بقوله «نعم فرار من قدر الله إلى قدر الله».
وبهذا خرج الخليفة بهذا الرد الذي ضمّنه أبو عبيدة حديث القدر بالطريقة الجدلية ذاتها، ولولا ذلك لفشل عمر في إقناع جمهور المسلمين آنذاك في ظل الحماس الديني، وانتهى هذا الأمر بقليل من المناقشات الهادئة عقب الحجة التي ألزم بها عمر أبا عبيدة. وكان للإمام علىّ نصيب وافر من هذه المناظرات القدرية.
مناظرات عثمان
وبعد أن وافت المنية عمرا، بويع عثمان أميراً للمؤمنين، وقد أتى من الأعمال ما أثار حفيظة كثير من الصحابة، منها أنه نصّب أقاربه ولاة على كثير من بلاد المملكة الإسلامية باعتبار أن هذا من قبيل صلة الرحم، كما أنه لم يتخذ من كبار المهاجرين والأنصار مستشارين له كما فعل ابن الخطاب.
كل ذلك فتح باب النقد والتقييم من قبل الصحابة على خليفتهم الثالث، وقد حفظت لنا كتب التاريخ شيئاً من الجدل الذي دار بينه وبين بعض الصحابة. إذ يروي الطبري في تاريخه مناظرة دارت بين عثمان وعلي بشأن كثير من هذه الأمور، ودارت مناظرة بين الخليفة وبين وفد من الكوفة والبصرة ذهبوا إليه معترضين على سياسة الخليفة تجاههم.
وآلت هذه الاضطرابات إلى استشهاد الخليفة الثالث، وكانت على أثرها الفتنة الكبرى، واختلف المسلمون بعدها إلى حيث لا رجعة.
جدلية التحكيم
وفي ظل هذا الغليان السياسي بويع على بن أبي طالب خليفة بتأييد السواد الأعظم من جمهور المسلمين آنذاك، باستثناء بعض معارضي البيت الأموي بقيادة معاوية بن أبي سفيان الذي كان يرى أنه أحق بالخلافة من على، وكان معه أهل الشام جميعا، وتمت البيعة بالمدينة، وعلى هذا فلم يتوافر لها أن كانت محل إجماع واتفاق بين جمهور المسلمين.
أسفرت تلك الأجواء عن مكاتبات غاية في الجدل والحجاج، بينها تلك المناظرة التي سجلها الطبري، ويروي أن عليا أرسل إلى معاوية يحاججه بأنه أسبق منه بالإسلام، ويرد حججه التي أثارها واستغلها أنصاره، في حين اتهمه معاوية بالتورط في دم عثمان.
احتد الصراع بينهما، ولم يكن هناك مفر من اللجوء إلى السيف، فاشتعلت معركة صفين 37 هـ والتي كادت الغلبة تكون فيها لعلىّ وأنصاه ، لولا فرار معاوية من المعركة ولجوءه إلى حيلة رفع المصاحف على أسنّة الرماح، وكان على أثرها «فتنة التحكيم»، وبعدها دبت الفرقة بين أنصار علىّ، وانشق عليه طائفة منهم، وقد كان هذا أحد ظهور الفرق الإسلامية.
وكانت هذه الأحداث كفيلة بخلق كثير من النصوص في مدونة المناظرة، فكان الجدل على أشده بين جنبات الكوفة والبصرة والمدينة، فقد كان أمر «التحكيم» حديث المساء والصباح وتجادل فيه العامة قبل الخاصة، فالخوراج يتجادلون مع ابن عباس مرة، ومع على مرات، ويخبرنا الطبري مثلاً عن مناظرة بين على ورجلين من الخوارج هما زرعة بن البرج الطائي وحُرقوص بن زهير السعدي، وكان هذا قبيل التحكيم.
وكثرت مناظرات الخوارج في أمر السياسة والحكم، فقد قويت شوكتهم، واشتد عودهم، وأصبحوا حزبا دينيا سياسيا له رصيد هائل من المناظرات.