إمبراطورية السقايين في مصر.. اخترقوا البيوت ونشروا الأخبار وكانوا رُسلاً بين العشاق
منذ نحو مائتي عام كان المصريون يحصلون على احتياجاتهم من الماء عبر السقايين، والذين كانوا ينتشرون في أرجاء العاصمة يؤدون عملهم وفق لوائح ونظم متعارف عليها.
كانت القاهرة تعتمد كلية على النيل الذي كان يجري على بعد كيلو متر من الحد الغربي للمدينة، بينما كان الخليج المصري (مكانه الآن شارع بورسعيد بالسيدة زينب) لا يجلب المياه الصالحة إلا لمدة ثلاثة اشهر عقب الفيضان، ولهذا تزود الناس بالمياه الصالحة للاستهلاك والاستعمالات المنزلية بواسطة السقايين.
طوائف لكل حي
وفي نهاية القرن الثامن عشر، وجدت بالقاهرة طوائف للسقايين، وكانت المياه تأتي من النهر الذي كانت توجد على طوله الموردات «موردة» التي يصب من عندها السقاءون، لذا كان من الطبيعي أن تنشأ متدرجة تلك الطوائف الأربع لحاملي المياه على ظهور الحمير بالقرب من المداخل الغربية للمدينة.
فنجد أولاً طائفة حاملي المياه على ظهور الحمير لحي باب البحر، ثم طائفة لحي باب اللوق، ثم ثالثة في حارة السقايين، والرابعة في قناطر السباع، وفي وسط الحد الغربي للقاهرة في ذلك الحي الذي كان يحاذي عن بعد اتجاه النيل – حي باب اللوق – كانت توجد طائفة لحاملي المياه على ظهور الجمال.
وابتداء من هذه النقط المختلفة كان «سقاءو القطاعي» يحملون القرب ويسيرون على أقدامهم يوزعون المياه في أحياء القاهرة، ولم يكن هناك سوى طائفة واحدة تضم باعة المياه بالقطاعي في الشوارع، وكان نشاطها يغطي أرجاء القاهرة.
انتشار سُبل المياه
وبعد حصولهم على تموينهم من المياه كان السقاءون يتوجهون إلى عملائهم مع قربهم التي أصبحت في القرن التاسع عشر بفعل التقدم مجرد براميل يجرها حصان أو حمار، وعندما كان السقا يصل إلى مقصده كان يصب المياه في خزان أو زير عميله، وكان السقا يأخذ من العميل ثمن المياه، وكانت تُقدر طبقا لعدد القرب التي يستهلكها العميل للشرب أو الرش.
ولم تكن كل كميات المياه المأخوذة من النيل تُباع مباشرة إلى سكان القاهرة، فجزء كبير منها كان يُوضع في خزانات (سُبل) حيث يستطيع الفقراء الذين لا يمكنهم شراء المياه من السقايين أن يحصلوا منها على حاجتهم بأنفسهم.
وفي عام 1806 كان يوجد بالقاهرة حوالي 300 سبيل كان معظمها عبارة عن منشآت خيرية أسسها بعض الأمراء والأغنياء لمنفعة السكان، وهذا العدد الكبير من السبل الموزعة على أحياء القاهرة كان يكفي حتى نهاية القرن التاسع عشر لضمان وجود المياه الصالحة في متناول الأهالي، اللهم إذا حالت الأحداث الخارجية دون تمويل هذه السبل.
ووجدت بالقاهرة في القرن التاسع عشر فئة من السقايين كانت تبيع المياه في الشوارع بالقطاعي، وهم الذين أطلق عليهم الرحالة اسم «سقا شربة» الحامل على كتفه قربة ذات أنبوبة نحساية طويلة، والذي يعلن عن نفسه بنداء «يعوض الله» فيدل هذا النداء على مروره.
وقد أدت عملية نقل المياه إلى نشأة تطور حرف صناعة الآنية والقِرب الجلدية والجرار الفخارية التي كانت تستعملها طائفة السقايين، ففي عام 1871 كان بالقاهرة 834 صانع فخار و183 تاجر قرب جلدية، وبلغ عدد السقايين عام 1870 بـ 3876.
السقايون.. رُسل الغرام
ولم يقتصر دور السقايين على مد أهالي القاهرة بالمياه اللازمة للشرب أو الرش، بل كان لهم دور مهم في إطفاء الحرائق، وكانت جماعة السقايين في القاهرة عنصرا أساسيا من عناصر المظهر الاجتماعي، وبحكم ذهابهم من منزل إلى آخر كما تقتضي وظيفتهم التي هيأت لهم أن ينفذوا إلى أعماق البيوت حيث السيدات، ولذلك لعبوا دورا مهما في نقل الأخبار ونشرها، وساهموا بطريقة مباشرة في الحياة اليومية لأهالي القاهرة.
وقد أشار الرحالة الأوروبيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى أن السقايين كانوا يُستخدمون كوسطاء في المغامرات العاطفية التي افترض وجودهم في معاقل الحريم، وربما يكونون قد لعبوا دور «رسل الغرام» متنافسين في ذلك مع الحمارين الذين كانوا، هم أيضا على صلة بالعنصر النسائي والذين كانت شهرتهم السيئة في هذا الأمر حقيقة مسجلة.
حنفيات العاصمة
ظل السقاءون يقومون بواجباتهم في إمداد أهالي القاهرة بالمياه حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حينما منح الخديوي إسماعيل امتياز ضخ المياه إلى شركة أجنبية في عام 1865، وأقيمت محطة لضخ المياه بالقرب من القصر العيني عند فم الخليج، وتم بعد ذلك عملية مد أنابيب المياه في باقي أحياء المدينة حيث تم توصيل المياه إلى القلعة ومنها إلى العباسية، وكان السقاءون يحصلون على احتياجاتهم من فروعها ابتداء شهر نوفمبر 1867.
وبعد ذلك جرى توصيل المياه إلى أحياء باب الشعرية والفجالة وغيرهما من المناطق.
ويبدو أن شركة المياه كانت تقوم في البداية ولمدة طويلة على جلب المياه إلى قلب المدينة عن طريق شبكة من الحنفيات التي حلت على نحو ما محل السبيل، وقد وضعت الشركة صاحبة الامتياز عند هذه الحنفيات موظفين مهمتهم الإشراف على توزيع المياه وتحصيل الثمن من المستهلكين.
لكن ذلك لم يغن سكان القاهرة عن اللجوء إلى السقايين لجلب المياه إلى منازلهم، فظل بعضهم يلعبون دورهم التقليدي في تموين الأحياء القديمة، بعد أن اضطرهم امتداد القاهرة نحو النهر إلى الانسحاب من منطقة القصر العيني.
ومع مرور الوقت أقيمت المباني اللازمة لرفع المياه وتخزينها، ومُدت المواسير تحت الشوارع، وفي الحارات والدروب، وسُير ماء النيل مقطرا من خزاناته إليها، فتسرب منها إلى الحنفيات في البيوت بعد أن كان يحملها السقاءون في القِرب، وهكذا أصبح الماء ميسورا في كل الأوقات.