الشبكشية والمسلكاتية.. ما لا تعرفه عن متعهدي «أنفاس» المصريين قبل 300 عام
هناك حرف تضرب بأعماقها في جذور التاريخ مثل حرفة النسيج التي عرفتها مصر منذ العصر الفرعوني وظلت من الحرف الأصيلة التي لا غنى عنها، وهي تتطور مع تطور المجتمع لكنا تظل قائمة، وهناك حرف تظهر من خلال اكتشاف شيء جديد، ومن هذه الحرف حرفة «الشبكشية» التي ظهرت مع استخدام الدخان الذي انتقل من تركيا إلى مصر في القرن السابع عشر إبان الحكم العثماني.
ومع أن كثيرين من فقهاء المسلمين قد تصدوا له منذ الأيام الأولى وأفتوا بتحريمه إلا أنه انتشر، وفي بعض الأحيان كان الوالي العثماني بالقاهرة يصدر أوامر بمنع تعاطي الدخان جهارا، وحدث هذا عام (1743 – 1744)، ورغم ذلك أصبح شرب الدخان فيما بعد شيئا عاديا، حيث كان الجند يجلسون على الحوانيت والمصاطب يأكلون ويشربون الدخان ويأتي أحدهم وبيده شبك الدخان فيدني مجمرته لأنف ابن البد على غفلة منه وينفخ فيه على سبيل السخرية.
دخان وقهوة.. طعام بلا ملح
وأشار الرحالة رودولف إرنست في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (أواخر عهد الخديوي إسماعيل) لتدخين الشبك، فقال: «لقد كان البائعون المعممون يجلسون متربعين، وارتدوا ملابس فضفاضة وراحوا يدخنون الشيبوك أو يشربون القهوة». ويبدو أنه كان من عادة المدخن أن يشرب القهوة مع التدخين، لأن التدخين بدون قهوة كالطعام بلا ملح كما يقول العرب.
واعتاد كثير من أهالي القاهرة تدخين التبغ، ولم يقتصر الأمر على الرجال فقط، بل أكد بعض المعاصرين أن كثيرا من النساء تمتعن بترف التدخين، حيث قال «ويسمح لأغلب النساء أن ينعمن بترف التدخين، ولا يعتبر النساء مهما علا مركزهن هذه العادة غير لائقة بهن، إذ أن رائحة التبغ الجيد المستعمل في مصر لطيفة جدا، ويلاحظ عادة أن شبك النساء أرشق من شبك الرجال وأكثر زخرفة، ويكون مبسم الشبك أحيانا من المرجان بدلا من الكهرمان».
وكان صانعو الشُبُك في القاهرة منتشرون في حي النحاسين وأحياء أخرى، وتفننوا في إتقان أنابيب الشبكات التي كانت الوسيلة الوحيدة لتدخين التبغ حينئذ، وكانت تُصنع عادة إما من البوص أو من أخشاب الجوز والكريز واللبخ والياسمين، ويُثقب هذا الخشب بمثقب يحركه وتر قوس تمسك به يد الصانع.
أنواع وأشكال التبغ في مصر
وكان أفراد الطبقة الراقية في القاهرة يدخنون تبغا له عطر لطيف لذيذ يُجلب أكثره من جوار اللاذقية في سوريا، وأحسن الأصناف «الدخان الجبلي» الذي كان يزرع على تلال هذه المدينة، وهناك صنف قوي يُنسب إلى مدينة صور وهو «الدخان الصوري» والذي يخلط أحيانا بالصنف السابق ويستعمله أفراد الطبقة الوسطى.
غير أن بعض المصريين كانوا يستخدمون الشبك الفارسي الذي يمر فيه الدخان خلال الماء، وهذا النوع يستعمله عادة أفراد الطبقة الراقية، ويسمى نارجيلة لأن الوعاء الذي يحوي الماء جوزة هندية (واسمها بالعربية نارجيلة)، وهناك نوع آخر ذو وعاء زجاجي يُسمى «شيشة»، وكلا النوعين له أنبوبة طويلة لينة.
وهناك نوع من التبغ الفارسي يسمى «تنباك» يستعمل في شبك الماء، ولكن شدة استنشاق الدخان في هذا النوع من التدخين يضر بالرئة الضعيفة، وهناك نوع يسمى «جوزة» يشبه الناترجيلة، إلا أن أنبوبته قصيرة بدلاً من أنبوبة النارجيلة القابلة للانثناء ويستعمله رجال الطبقة الدنيا لتدخين التنباك والحشيش.
واستمر الشبكشية يصنعون أنابيب الشبكات حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا، حينما انتشرت ماكينات صناعة السجائر، وكان لعمال هذه الصناعة فيما بعد دور في النقابات العمالية، إذ أن أول محاولة لإنشاء نقابات عمالية في مصر هي تلك التي أقامها عمال السجاير بالقاهرة سنة 1899، ففي نفس العام أعلنوا الإضراب مطالبين بتحسين أجورهم، وطافوا بشوارع العاصمة في مظاهرة، وكان الجمهور يحييهم والنساء تشجعهم.
المسلكاتية
وارتبط بالشبكشية طائفة أخرى هي المسلكاتية. كان العديد من فقراء القاهرة يتعيشون من تنظيف الشبك، ويحمل المسلكاتي «أي منظف الشبك» سلوكا طويلة لهذا الغرض يضعها في عصا مجوفة ثلاث أو أربع في أنابيب من القصدير، يشدها معاً ويعلقها على كتفه، ويعلق مع العصي أو الأنابيب حقيبة صغيرة من الجلد بها ألياف من القنب يلفها على السلك لتنظيف الشبك، ولا يتناول المسلكاتي على تنظيف الشبك الواحد أكثر من نصف فضة، وقد بلغ عدد المسلكاتية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر 46 مسلكاتيا.