«عفريت.. من علامات الساعة.. مفسدة للنساء».. هكذا رأى المصريون الترام

«عفريت.. من علامات الساعة.. مفسدة للنساء».. هكذا رأى المصريون الترام

في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان المصريون على موعد مع حدث استثنائي استقبلوه بريبة وخوف، ولكن سرعان ما تآلفوا عليه حتى أصبح معطى من معطيات حياتهم التي لا يستطيعون الاستغناء عنه.

تمثل هذا الحدث في مد خطوط الترام بالقاهرة ما أدى إلى تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية طرأت على سكان العاصمة، وهذا ما تناوله محمد سيد كيلاني في كتابه «ترام القاهرة. دراسة تاريخية. اجتماعية. أدبية».

مصريون يصرخون: عفريت عفريت 

في أغسطس سنة 1893 أعلنت الحكومة المصرية عن رغبتها في أن تقوم شركة بمد خطوط للترام في العاصمة، وسرعان ما تبلورت الفكرة على أرض الواقع، ففي نوفمبر من العام التالي صادق مجلس النظار على منح امتياز بإنشاء سكة ترامواي تسير بالكهرباء في العاصمة لشركة بلجيكية.

وتقرر أن يكون الامتياز بثمانية خطوط، تبدأ كلها من ميدان العتبة، فالأول يتجه إلى القلعة، والثاني إلى بولاق، والثالث إلى باب اللوق فالناصرية، والرابع إلى العباسية عن طريق الفجالة، والخامس إلى مصر القديمة، والسادس من فم الخليج إلى الروضة، ثم ينتقل الركاب بزورق بخاري إلى الشاطئ الآخر ليستقلوا قطارا إلى الجيزة، وهذا هو الخط السابع، بينما يبدأ الثامن من ميدان قصر النيل ويسير موازيا للترعة الإسماعيلية إلى قنطرة الليمون (كوبري الليمون الآن خلف محطة سكك حديد مصر الآن).

وفي أول أغسطس سنة 1896 أجرت الشركة حفلة تجريبية لتسيير أول قطار كهربائي. ففي العاشرة من صباح هذا اليوم، ركب حسين فخري باشا ناظر الأشغال إذ ذاك، ومعه بعض كبار موظفي النظارة قطارا أقلّهم من بولاق مارا بميدان العتبة إلى القلعة.

واصطف الناس على الجانبين ألوفا، ليشاهدوا أول مركبة سارت في العاصمة بقوة الكهرباء، والأولاد يركضون وراءها مئات وهم يصرخون: العفريت، العفريت.

وكانت أجرة الركوب ستة مليمات للدرجة الأولى، وأربعة للثانية، وقد عينت الشركة أربعمائة عامل مصري.

وفي سنة 1897 ردمت الشركة الخليج المصري (شارع الجيش الآن)، ومدت خطا من السيدة زينب إلى غمرة، كما حصلت على امتياز بخط يمتد من الجيزة إلى الهرم، ثم مدت خطوطا عديدة بعد ذلك إلى مختلف مناطق القاهرة والجيزة.

لائحة مخالفات الترام

وعندما وقعت الحكومة عقد الامتياز للشركة، لم تخص نفسها بشيء من الدخل، ولم تشترط عليها التخلي عن أملاكها وجميع ما يتعلق بها عند انتهاء مدة العقد، لكنها تداركت ذلك سنة 1908، فعقدت اتفاقاً جديداً قبلت الشركة بمقتضاه أن تجعل للحكومة 5% من إيراداته تدفع شهرياً.

وقد وضعت الشركة بالاتفاق مع الحكومة لائحة خاصة، وعُرضت على مجلس الشورى فناقشها وصادق عليها، وأهم بنودها أن كل محدث غوغاء أو سكران، أو مصاب بعاهة تشمئز منها النفس، يُمنع من ركوب الترام.

ونصت المادة الثامنة على أنه لا يجوز وضع شيء من الأشياء على الخط، ولا يجوز تسلق الأعمدة المعدة للحركة الكهربائية، أو تعليق شيء عليها، أو السير أمام أو خلف العربات السائرة، أو التعلق بها بأي وجه من الوجوه.

الترام من علامات الساعة

وقد أحدث الترام حالة جدل بين مؤيد ومعارض له وهو ما رصدته الصحف آنذاك، فالمؤيدون رأوا فيه نقلة حضارية تباهي به مصر دول أوروبا آنذاك، كما أنه يربط بين أنحاء العاصمة، ويُستعاض به عن وسائل المواصلات التقليدية مثل الحمير وعربات الكارو.

بينما أبدى المعارضون لهذا المشروع أسبابا تدور حول أنه يؤدي إلى فساد الأخلاق، فأي امرأة باتت تستطيع أن تركب الترام وتذهب في غيبة زوجها إلى حيث تشاء، كما أن طلبة الأزهر ودار العلوم والمعممين كانوا يستقلونه للذهاب إلى المواخير والمراقص، كما اتخذت محطات الترام أمكنة لتقابل العشاق، ومغازلة النساء والاحتكاك بهن ومطاردتهن، حتى أن جريدة «المنار» تقول إن خطباء المساجد أخذوا منذ بدء العصر الترامي يحذرون الناس، وينذرونهم باقتراب موعد القيامة.

إضاءة الشوارع

غير أن نجاح شركة الترام ترتب عليه تكوين شركة بلجيكية أخرى للإضاءة الكهربائية في نهاية سنة 1896، فشرعت منذ أوائل سنة 1897 تمد المنازل بالتيار الكهربائي واتفقت معها الحكومة على إضاءة الشوارع نظير مبلغ من المال يُدفع سنويا. وفي غضون سنة 1899 شاع استعمال النور الكهربائي، وأخذ الأغنياء من المصريين في إضاءة منازلهم به.

وكان لإنشاء الترام أثر كبير في ارتفاع أثمان الأراضي والمنازل التي يمر بها، فما كادت الشركة تشرع في مد خط شبرا حتى ظهرت إعلانات في الصحف عن قطع من أراض البناء معروضة للبيع.

وكوسيلة في ترغيب الناس في شرائها نص الإعلان على أنها «على مسافة بعض أمتار من خط الترامواي»، ما ساعد على تزايد حركة العمران، فتحولت العشش الكثيرة والأرض الخراب إلى بيوت أنيقة على أحدث طراز، كما زادت أثمان البقع الواقعة في وسط المدينة إلى ثلاثة أضعاف.

أحياء جديدة

وتبعاً لهذا التطور تألفت في سنة 1905 شركة بلجيكية لإنشاء حي جديد محل القرى بمناطق عين شمس أو هليوبوليس (نسبة إلى مدينة قديمة كانت مقامة في هذه المنطقة)، ولكن هذا الاسم الأخير كان ثقيلا على السنة العامة فأطلقوا على هذا الحي اسم «مصر الجديدة».

واهتمت الشركة بتوفير سبل المواصلات إلى الحي الجديد، فحصلت على تصريح بإنشاء الترام السريع وبدأ تسييره سنة 1910، كما مدت خطا للترام العادي ينتهي إلى العباسية، وخطا آخر إلى الزيتون، وكدعاية للحي الجديد، أقامت الشركة مدينة للملاهي أطلقت عليها اسم «لونا بارك» أي وادي القمر.

وفي سنة 1906 فكرت شركة الدلتا في إنشاء حي جديد في معادي الخبيري، عُرف بحي المعادي على النمط الأوروبي من حيث تصميم المباني والقصور والحدائق.


حِراك ثقافي وتجاري

وبوجود الترام استطاع الكُتاب والشعراء أن يجتمعوا في مقاهي الأزبكية وحاناتها، فنشأ بينهم صدام، وتولدت خصومات عنيفة ظهر أثرها فيما نُظم من قصائد الهجاء وشعر النقائض.

ولما أصبح في قدرة ساكن القاهرة الانتقال من مكان إلى مكان في أي وقت شاء بسبب الترام، وكانت الخطوط كلها تبدأ من ميدان العتبة، أو تنتهي إليه، فقد نشأت في حي الأزبكية المحلات الكبرى لتجارة التجزئة والموجودة حتى اليوم، وبلغ من تزاحم التجار وأصحاب الفنادق والمطاعم والمقاهي والحانات أن ارتفع سعر المتر من أرض البناء في حي الأزبكية إلى ستين جنيها سنة 1905، وإلى تسعين في الموسكي.

ومن المحلات التجارية التي افتتحت في الأزبكية عقب تسيير الترام «محلات آل مدكور» في سنة 1896، وقد زارها الخديوي عباس وطاف بأركان المحل، وشاهد أنواع البضائع في كل قسم، وقال لحسن مدكور: «إن هذه أول مرة يدخل فيها خديوي مصر محلا تجاريا في القطر المصري، وأنه قصد بهذه الزيارة التشجيع على تنمية روح التجارة الوطنية في البلاد».

المصدر

  • كتاب «ترام القاهرة. دراسة تاريخية. اجتماعية. أدبية». محمد سيد كيلاني.

محمد أحمد

محمد أحمد

صحفي يكتب في التراث والثقافة الشعبية