أحمد صومع يكتب: لا تخبريهم أنني غائب
فى حافة يوم شاق أشار علىَ أحدهم أن أقرأ لمصطفى صادق الرافعى بعضا من عباراته، حتى أتذوق من عُذوبة اللغة وهي تتراقص على لسان هذا الراجل، وكيف لا؟ وهو أحد أ شهر أدباء العرب تاريخيا.
وبينما تأخذني الهمة إلى تجربة القراءة لهذا الرجل إذ اصطدمت بأولى العبارات جعلتني أتوقف تماماً عن مواصلة ما بدأته، فقد سرد الرجل بعضا من وسامة كلماته مغردا: «ألا ليت لي قلبين : قلبٌ بحبه * مريضٌ وقلبٌ بعد ذاك طبيبي فواللهِ إن الحبّ خير محاسـني * وواللهِ إن الحبّ شـرّ عيوبـي».
لم يدرك الرافعي فيما بعد أن أجيالا ستأتي واقعة في حيرة من أمرين، والجميع سقط في غيابات «الحب»، كما لو كان كلُ منا يروى ظمأه من التعلق بصبوة الحب ومصافاة نسائمه التي تزيد الروح صلابة لاعوج فيها.
مضينا ومضت الأيام وسكنت في معاجمنا كلمات مصطفى الرافعي، وباتت تحاصرنا الأيام بين فُكاهة اللقاء وكراهية الانقطاع.
كنا إذا التقينا وشكونا مرارة العيش وحنظلة الأيام، تبدلنا كالجيوش تصهر النكبات وتذيل العثرات من طريقنا، كنا نتظاهر بأننا أشداء البأس ولو دخل كلُ منا قلب الأخر لأشفق عليه
لماذا تتبدل الأحوال على حين غفلة؟ (ذلك هو السؤال المستعصىي)، ففي موقفٍ كسابقه تجد نفسك مفتقدا لأنفاس كانت كالظل لا يغيب عنك في نزالك ولا يقسوا يوما على روحك، أما أن تجد نفسك وحيدا كل ليلة فتبوح بكتابات ثم تتراجع كأنك تغامر أن تحيي شعورا صعد إلى بارئه.
لن تكون مثل الذين قاتلوا في سبيل هذا، ولو قاتلت لما عجبتهم وما قالوا «صدق وعده»
أن تكون فقط عنيداً في طريق الحب فهذا لا يعنى أنك ستنتصر ولكن أن تمتلك الحصافة في المقاومة وفطانة الفعل فهذا سيدفعك إلى إحراز الغلبة.
إياك ان تكون أخرقاً وبليداً فى الحب، ستنكسر .. ستتحطم ..ستُهدم.. ستموت كما لو كنت فريسة تكالب عليها الحثالة والرعاع.
لن تستقيم ما دمت تتراخى، قاوم مثل أولئك الذين ظفروا بمن أرادوا حتى قيل لهم: «سلامُ عليكم، طبتم».
هكذا علمنا الرافعي أن نكون واقعين بين المحاسن والعيوب، حتى استقرت دواخلنا أن للوصول جِزية لابد أن ندفعها حتى نعبر إلى مبتغانا.
أحيانا نخرج بالكتابة من منطق الضعف إلى منطق الشدة والتخبط، مثلما قالت رضوى عاشور أن الكتابة فعل أناني وطارد يفرض درجة من العزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك ويضعهم على الرف إلى حين فعل ينفي الآخرين ليخاطبهم ويكتب حكاياتهم، يقصيهم ليراهم أكثر يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المفرد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم عجيب.
وكفىَ بالكتابة متنفساً ورفيقا
في الغياب يمكن أن يكتمل الشغف والوحشة لأحدهم، كأنهم سحبوا الأرض من تحت أقدامنا وأفقدونا رسوخنا، كأن الأيام تمر دون محدثات، ربما في كل لحظة نتمنى لو أن نفقد نصف اعمارنا بينما نتحدث مع الذين ذهبوا أو نراهم للحظات.
يفزعنا الفراق بقدر ما يفزعنا الموت، ربما في الموت يمكن أن نتماسك لأننا نعلم المصير ولكن في الفراق يتحول الأمر إلى عدم ىستقرار، إن المحب في ساعات الفراق لمرتاب وَظَنون.
لو كان البكاء حلا ما رأيت أعيننا الجفاف في يومها، ولكن مرارة الأقدار أبكت قلوبهم قبل أعينهم، لو أطلعت عليهم لرأيت جدار حياتهم يريد أن ينقض ولن يجد من يقيمه ولو بأجر، تلك هي دروس الحياة، لا تترك الأخضر حتى تجعل منه يابسا ولا تترك الرطب حتى تجعله جافا ولا يمر عليها المستبشر حتى تجعله تعيسا.. ولله فى خلقه آيات.
لقد فقدنا حياة كنا نتحسس منها ثقلاً وارتياباً حتى وجدنا أنفسنا نتمنى رجوعها! لم نفتقد الاجساد بقدر ما نفتقد أرواحاً كنا نهرب إليها من ثِقل العالم، ولا شفاء غير أن تراهم يحلقون من فوق روحك كأنهم يحيون ما استنزفته،
فخاطبوا الله في خلوتكم أن يرد عليكم ودائعكم والله أقرب إليكم من حبل الوريد.