زُينت القاهرة ونُظمت الحفلات وأُطلقت المدافع.. هكذا احتفل محمد علي بانتصاره على الوهابيين
قبل أن يمضي عامان على تولى محمد علي حكم مصر وتحديداً في أواخر ديسمبر سنة 1807، طلبت الدولة العثمانية منه إرسال جنوده إلى الحجاز للقضاء على الحركة الوهابية، وجددت تركيا هذا الطلب بل ذلك الأمر سنة 1808 ثم سنة 1809، وكان محمد علي في كل مرة يتعلل باشتغاله بمحاربة المماليك.
فلما انتهى من حملته عليهم بالوجه القبلي وعاد إلى القاهرة في سبتمبر سنة 1810، التقى رسولاً من الأستانة يحمل إليه رسالة جديدة تقضي بتكليفه بالإسراع في تجريد الجيش لمحاربة الوهابيين، فلم يجد أعذاراً جديدة في التسويف والتأجيل، حسبما ذكر عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر محمد علي».
وفي سنة 1811 جهّز محمد علي جيشه بقيادة ابنه طوسون باشا لقتال الوهابيين بعدما امتد سلطانهم من أقصى الجزيرة العربية إلى أقصاها، ولم تستطع القوات العثمانية القضاء عليهم، ثم تولى إدارة الجيش بعد ذلك إبراهيم باشا.
احتفالات كبيرة
وبعد نحو سبع سنين انتهت الحرب الوهابية بانتصار الجيش المصري وبسط نفوذ مصر في عهد بلاد العرب، وكانت هذه الحرب من أشق حروب مصر في عهد محمد علي وأكثرها ضحايا وأعظمها نفقات، لذلك جرى الاحتفال بهذا الظفر العسكري أياماً عديدة وسط مظاهر من الأبهة والجلال، استعرضها عبدالرحمن الجبرتي في كتابه «تاريخ الجبرتي» أو المسمى بـ«تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار».
روى الجبرتي، أن الأنباء التي جاءت بفتح الدرعية عاصمة الوهابيين وانتهاء الحرب كان لها أثر وابتهاج عظيم في مصر، وقوبلت باحتفالات بالغة، وذكر «في سابع ذي الحجة سنة 1233 (أكتوبر 1818) وردت بشائر من شرق الحجاز بمراسلة من عثمان أغا الورداني أمير الينبع بأن إبراهيم باشا استولى على الدرعية والوهابية، فسُر الباشا لهذا الخبر سروراً عظيماً، وانجلى عنه الضجر والقلق، وأنعم على المبشر، وعند ذلك ضربوا مدافع كثيرة في القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية، وانتشر المبشرون على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش».
وفي ثاني عشر وصل المرسوم بمكاتبات من السويس والينبع، وذلك قبيل العصر، فأكثروا من ضرب المدافع من كل جهة، واستمر الضرب من العصر إلى المغرب بحيث ضُرب بالقلعة ألف مدفع، وصادف ذلك شك أيام العيد.
وعند ذلك أُمر بعمل مهرجان وزينة داخل المدينة وخارجها وفي بولاق الدكرور ومصر القديمة والجيزة، وعلى النيل تجاه بولاق أبو العلا.
سبعة أيام
وتجددت الحفلات في شهر محرم سنة 1234 (نوفمبر 1818) بعد ورود تفاصيل الانتصارات التي نالها إبراهيم باشا. وأسهب الجبرتي في وصف تلك الحفلات ما يدل على فخامتها وبهائها.
فنودي بزينة المدينة سبعة أيام، ونُصبت السرادقات خارج باب النصر، ومن بينها سرادق محمد علي باشا وباقي الأمراء لمشاهدة الحفلات، وهي مناورات حربية تتخللها حركات فروسية قام بها الخيالة والمشاة، واقترنت بإطلاق المدافع بكثرة هائلة «بحيث يتخيل الإنسان أصواتها مع أصوات بنادق الخيالة المترامحين رعوداً هائلة»، وفي الليل كانت تُوقد المصابيح والمشاعل، وتُطلق الصواريخ وتُضرب المدافع.
مناورات بحرية
وبعد انقضاء السبعة أيام اُعدت حفلات أخرى في جهة بولاق تختلف في نظامها وأوضاعها عن حفلات باب النصر، فهذه كانت برية، أما حفلات بولاق فكان ميدانها النيل وشاطئيه، ولذلك كانت أبدع وأروع، فقد اُستؤجرت الأماكن المطلة على البحر بأجور مرتفعة لتزاحم الناس على مشاهدتها واستجلاء مناظرها، وكان قوام الحفلات مناورات بحرية تقوم بها السفن والمراكب تمثل فيها المعارك البحرية.
ولبست بولاق حلة من الرونق والبهاء، وأقبل الناس من كل صوب لمشاهدة معالم الزينة و«زيّن أهالي بولاق أسواقهم وحوانيتهم وأبواب دورهم، ودٌقت الطبول والمزامير في السفن وغيرها، وكانت موسيقى الباشا تضرب في ضُحى كل يوم وعصره وبعد العشاء، وتوقد المشاعل وتُضرب الصواريخ، وتتقابل القلاع المصنوعة على وجه الماء، ويرمون منها المدافع على هيئة المتحاربين».
والملاحظ في وصف الجبرتي لهذه الحفلات أنها فاقت في جلالها وفخامتها كل ما تقدمها من الحفلات في مختلف المناسبات، فلا يوجد فيما وصفه بعد ذلك من الحفلات لغاية انتهاء كتابه سنة 1821 ما يدانيها في الروعة والبهاء، ما يدل على عظم تقدير الشعب للانتصارات الحربية وما تستثيره في النفوس من روح الفخر والعزة.
وليس عجباً أن تحتفل مصر بفتح الدرعية باعتباره أعظم انتصار نالته في أول حرب خارجية خاضت غمارها في تاريخها الحديث، فالدرعية كانت عاصمة الوهابيين، وبفتحها تُوجت حرب شاقة دامت سبع سنين وكُللت بالنصر.