مصطفى محمود.. رحلة «محتسي الخمر» من الشك لليقين
هل تذكر هذه الموسيقى؟ بالتأكيد سمعتها كثيرًا في صغرك، وجلست بين والديك في سهرات وهما يشاهدان هذا البرنامج؟ حينها ربما كنت أصغر من أن تدرك معنى ما يقول، إلا أنك حين كبرت وشاهدت تلك الحلقات أدركت كم كان برنامج "العلم والإيمان" استثنائيا وعبقريًا.
كل إثنين، وفي تمام التاسعة مساءً، كان الجميع يلتف حول التلفاز، يستمع إلى هذه الموسيقى، يتبعها صوت مميز يقول «أهلًا بكم»..
ربما كان برنامج «العلم والإيمان» للراحل المفكر مصطفى محمود، الذي نحتفل بذكرى مولده اليوم، أحد أهم البرامج التي قدمها التلفزيون المصري على مدار تاريخه، ووصل عدد حلقاته إلى حوالي 400 حلقة عن موضوعات مختلفة. إلا أن هذا البرنامج لم يكن المرحلة الأخيرة في رحلة مصطفى محمود، بل سبقها الكثير من التفكير، الشك، البحث حتى اليقين.
مصطفى محمود، الذي ولد في مثل هذا اليوم من عام 1921 بقرية ميت خاقان بشبين الكوم، بدأ محمود رحلته الفكرية منذ طفولته، وكان أول ما أثار انتباهه حين قدم لهم شيخ الكُتّاب ورقة يلصقونها على الجدران لمنع الصراصير، إلا أن الحشرات ازدادت، مما جعله يفتش عن الأمر.
حين دخل محمود المدرسة كان يميل لمواد الجغرافيا والطبيعة، وتفوق دراسيًا، حتى ضربه مدرس اللغة العربية يومًا؛ فغضب وانقطع عن الدراسة لثلاث سنوات، حتى انتقل ذلك المدرس إلى مدرسة أخرى؛ فعاد للدراسة، وتفوق فيها حتى دخل كلية الطب.
الموسيقى
منذ صغره، أحب محمود الموسيقى وأثناء دراسته في الكلية عشق العزف على الناي، ويحكي أنه تعرف على «الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتي والراقصة فتحية سوست»، واتفقا معه أن ينضم لفرقتهما، ووافق دون مقابل مادي؛ لكثرة ما كان يحب العزف، إلا أن هذا الأمر ازعج أسرته وزملائه.
المشرحجي
عُرف مصطفى محمود بين أقرانه في الجامعة باسم «المشرحجي» لكثرة حبه للتشريح، حتى أنه انشأ معملًا صغيرًا في منزله يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات، ثم يقوم بتشريحها.
البداية
بدأ مصطفى محمود الكتابة أثناء دراسته بالجامعة، وكتب في مجلة «روزاليوسف» وبدأ مسيرته الأدبية في ستينيات القرن الماضي، وبلغ حبه للصحافة أن تخلى عن عمله كطبيب، حين أصدر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، قرارًا بمنع الجمع بين وظيفتين، وتفرغ للعمل بالكتابة والصحافة.
الشك
اعترف مصطفى محمود في مذكراته، التي نشرت عام 2009، بأنه في مرحلة الشك من حياته كان يريد تجربة كل شيء، واعترف بشربه الخمر في الستينيات على سبيل التجربة، إلا أنه لم يجد منها فائدة، فقال: «أحسست أن ليس لها طعمًا بالمرة، وكانت تجعل جسمي ثقيلًا جدًا»، فقرر تركها ولم يعد لها ثانية.
دومًا كانت بداية الخلق وأزمة بداية الكون تشغل باله وتفكيره، كان تفكيره بالكامل ينصب على تساؤل واحد: «تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق، ولابد لكل صنعة من صانع، ولابد لكل وجود من مُوجِد، صدّقنا وآمنا، فلتقولوا لي إذن مَن خلق الله، أم أنه جاء بذاته، فإذا كان قد جاء بذاته وصحَّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر، فلماذا لا يصحُّ في تصوركم أيضًا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال».
اليقين
كانت تلك التساؤلات تؤرقه، فقرر أن يبحث ويتفكر في كل ما حوله حتى يصل إلى اليقين، إلا أن أفكاره وكتاباته في مرحلة الشك جعلت الجميع يتيقن أنه قد ألحد وخرج على الدين الإسلامي، خاصة بعد أن أصدر كتابه «حوار مع صديقي الملحد»، والذي تكهن الكثيرون بأنه لم يكن حوارًا مع أحد الأصدقاء، وإنما كان حوارًا مع الذات.
ورغم أن هذا الكتاب كان قد صدر في عام 1986، وسبقه كتاب آخر عام 1970 بعنوان «رحلتي من الشك إلى الإيمان» إلا أن تلك الصفة ظلت ملتصقة به، رغم كل ما انتج من كتب وروايات تؤكد إيمانه بوجود الله، والتدليل على ذلك بمعجزات في الكون والنفس البشرية، حتى بلغ عدد الكتب التي ألفها 89 كتابًا.
العلم والإيمان
بدأ مصطفى محمود هذا البرنامج كي يعرض حقائق علمية تؤكد حقيقة كون الله خالق هذا الكون وحده، وبلغ عدد حلقات البرنامج 400 حلقة، سجلهم على مدار 18 سنة. ويروي محمود أنه عندما عرض على التلفزيون مشروع برنامج العلم والإيمان وافق التلفزيون، بشرط ألا تتجاوز تكلفة الحلقة 30 جنيهًا فقط، وكاد المشروع أن يتوقف لهذا التعنت إلا أن تطوع أحد رجال الأعمال بتحمل تكلفة البرنامج جعلته يخرج للنور.