رحلة «الإنجليزية» من القبائل البدوية إلى بريطانيا
لم تكن تلك القبائل الجرمانية التي اعتادت الحرب والغزو تعلم أنها في تلك الحملة بالذات التي ستشنها على جزيرة بريطانيا في القرن الخامس الميلادي، ستسهم في تغيير ملامح تلك الجزيرة المنعزلة تماما، بل ملامح العالم بأكمله. فاللغة الإنجليزية التي أصبحت الأولى والأوسع انتشارا عالميا، تدين لهذه القبائل البدائية التي فرضت لغتها وثقافتها أينما حلت، والتي أيضا شكلت جزءا كبيرا من ملامح القارة الأوروبية.
في هذا التقرير يرصد «شبابيك» رحلة اللغة الإنجليزية من القبائل البدوية إلى بريطانيا ومنها إلى كل العالم.
الجرمان هم قبائل سكنت شمال أوروبا في المنطقة المعروفة باسم اسكندنافيا، وتشمل النرويج والسويد والدنمارك وشمال غرب ألمانيا.
عاشت قبائل الجرمان على الغزو والملاحة والتجارة. ويرجع بعض الباحثين أنهم قد غزوا إنجلترا هربا من الظروف المناخية القاسية في أقصى شمال أوروبا، حيث الثلج والصقيع وقلة الموارد الغذائية.
وبعد أن انسحبت القوات الرومانية من بريطانيا عام 410 ميلاديا، أصبحت هدفا سهلا للقبائل الجرمانية التي طالما شكلت أرقا للدولة الرومانية بهجومها على الأراض التابعة لها.
وفي القرن الخامس بعد الميلاد تحديدا شن الأنجلو سكسونيين – وهم مجموعة من القبائل الجرمانية هي: الأنجلز والسكسون واليوت، هجوما على منطقة عرفت فيما بعد باسم "إنجلترا" وبالإنجليزية England التي تعني Angle land أي أرض الأنجلز.
لم يكن السكان الأصليين لتلك الجزيرة "السِّلت" يجيدون فنون القتال كما اعتاد الجرمانيون، ما أدى إلى هزيمتهم وفرار بعضهم. ومن هنا سيطرت القبائل الجرمانية ليست فقط سياسيا، وإنما نشرت ثقافتها وعاداتها ولغتها أيضا.
انتشرت لغة القبائل الجرمانية لتحل محل لغة السكان الأصليين. ومن هنا نشأت ما تسمى باللغة الإنجليزية القديمة "Old English".
الإنجليزية ليست لغة لاتينية
تعود معظم اللغات الأوروبية الشائعة اليوم إلى عائلتين لغويتين كبيرتين، هما عائلة اللغة اللاتينية واللغة الجرمانية.
اللغة اللاتينية كانت قديما لغة العلم، ومنها أخذت الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية المصطلحات الخاصة بالعلوم والتقنية. وانحدرت من اللغة اللاتينية مجموعة أخرى من اللغات أشهرها: الإيطالية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية.
أما الجرمانية فهي لغة تلك القبائل التي استوطنت شمال أوروبا، وانحدرت منها مجموعة أخرى من اللغات أشهرها الإنجليزية والألمانية والنرويجية والدنماركية والسويدية والهولندية.
ونتيجة لغزو القبائل الجرمانية لمناطق عديدة من أوروبا تداخلت هذه اللغات وتأثرت كل منها بالأخرى.
واللغة الإنجليزية تعود في الأصل إلى عائلة اللغات الجرمانية وليست اللاتينية كما هو الشائع. فهي أقرب في قواعدها اللغوية إلى الهولندية والألمانية.
مرت اللغة الإنجليزية بمراحل تطور عديدة جدا، خاصة بعد غزو النورمان لإنجلترا في القرن الحادي عشر – وهم شعب جرماني أيضا احتل فرنسا في القرن التاسع الميلادي - ومن هنا أصبحت الأسرة المالكة في إنجلترا ناطقة بالفرنسية، وانفتحت إنجلترا أكثر على القارة الأوروبية، ما جعل اللغة الإنجليزية تكتسب الكثير من الكلمات ذات الأصل اللاتيني، وتفقد الكثير من جرمانيتها.
وبالتالي .. الأبجدية اللاتينية ليست الأصل في الإنجليزية
ترجع أولى المخطوطات التي عثر عليها مكتوبة بالإنجليزية القديمة إلى القرن الثامن الميلادي، وقد كتبت معظمها باللهجة الأنجلوسكسونية. حيث إن اللغة الإنجليزية القديمة قد نشأت من مجموعة من اللهجات الجرمانية المختلفة.
يبدو الشبه بين اللغة الإنجليزية القديمة والحالية بعيدا جدا، ليس في المفردات والمصطلحات التي لن يفهم منها المتحدثون الحاليون باللغة الإنجليزية شيئا، لكن بسبب كتابتها أيضا بأبجدية مختلفة؛ فقد عثر على هذه المخطوطات مكتوبة بالأبجدية الرونية التي كتبت بها اللغات الجرمانية القديمة.
أما الحروف اللاتينية فقد دخلت الإنجليزية عن طريق المبشرين المسيحيين منذ القرن السابع الميلادي، وبدأت تحل محل الأبجدية الرونية شيئا فشيئا.
حينما عبرت اللغة الإنجليزية القارات
منذ أن حلت القبائل الجرمانية في إنجلترا واللغة الإنجليزية في تطور مستمر، فتلك القبائل بدوية الأصل والتي لم تعرف الاستقرار كانت دائمة الحراك في القارة الأوروبية، توسع نفوذها وأراضيها بغزو الشعوب المجاورة، ما أدى إلى تأثر اللغة الإنجليزية بلغات السكان الأصليين لتلك المناطق.
الأمر نفسه فعله الأحفاد في العصر الحديث مع قيام إمبراطورية بريطانيا العظمى، التي وسعت نفوذها في مناطق الشرق الأوسط والهند وأفريقيا، وفرضت ثقافتها ولغتها عن طريق الاحتلال. حتى بعد أن انسحبت بريطانيا من هذه البلاد ظل تأثيرها ممتدا إلى الآن حيث إن بعضا من الدول التي احتلها تعتمد اللغة الإنجليزية كلغة رسمية أولى أو ثانية مثل الهند وباكستان.
وبالمثل الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية، حين انقلبت موازين القوى، لكن ليس من خلال الاحتلال والغزو، بل عن طريق نشر الهوية والثقافة الأمريكية وطابعها الخاص في اللغة.
المصادر: