بيرم التونسي.. شاعر آلمه الهوى واغتراب الوطن

بيرم التونسي.. شاعر آلمه الهوى واغتراب الوطن

«هو صحيح الهوى غلاب؟» بهذا التساؤل الكوني افتتح بيرم التونسي إحدى أفضل أغنياته، التي أدتها أم كلثوم، ضمن سلسلة من الأعمال المشتركة الناجحة بينهما، مثل «الورد جميل، يا صباح الخير، أنا في انتظارك، غنيلى شوي شوي، الحب كده» وغيرها من الأغاني التي امتزجت فيها كلمات «فنان الشعب» مع موسيقى ذكريا أحمد وعظمة صوت الست.

«فنان ثائر، عاش طوال حياته يعاني العرق والقلق، وشظف العيش» هكذا قال عنه الكاتب الكبير كامل الشناوي. فبرغم قدرته العجيبة على نظم قصائد عاطفية من الدرجة الأولى، إلا أنه كان مُبدعا  في نظم قصائد هجاء سياسية ثائرة، أثرت على حياته، وجعلته يعيش منفيا قدرا كبيرا من حياته.

طفولته

بيرم، الذي ولد في 23 مارس 1893 في حي السيالة بالإسكندرية لعائلة تونسية الأصل، لم تكن حياته سهلة يومًا، ففي صغره واجه قسوة والده ومُعلمه، لتأخره الدراسي في الكُتاب، حتى فقد أبوه الأمل في تعليمه وأخرجه من الكتاب ليعمل مع أولاد عمه في الدكان، ثم ألحقه بالمعهد الديني في مسجد المرسي أبو العباس. وأخيرًا وجد الطفل نفسه في مكان يحبه وأقبل على التعلّم بشغف. ولكن القدر كان يخبأ له معاناة أخرى، ففي عامٍ واحد توفت أخته الصغرى، واكتشفت والدته أن أباه متزوج من أخرى، وتوفى الأب سريعًا؛ لتستولي زوجته الثانية على ثروته، ويضطر بيرم لترك الدراسة، والعمل كصبي في محل بقالة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تواصلت معاناته حين تزوجت والدته، وبعد أن توفيت انتقل للعيش مع أخته من أبيه، و«بدأ حياة من الضياع، كانت تعد عليه أنفاسه وحركاته وسكناته، وتضيق بأية خدمة تؤديها له» بحسب ما قال فيما بعد.

زواجه

ضاق بيرم بحياته مع أخته وقرر الزواج وهو بعد في 17 من عمره، افتتح دكانا صغيرا وتزوج، وعاش مع زوجته في حجرة بمنزل أبيها، وبدأت الحياة تبتسم له. إلا أنها سرعان ما كشرت عن أنيابها مجددا؛ لتخسر تجارته ويضطر لإغلاق المحل، وبيع نصيبه من ورث أبيه، وبمجرد أن بدأت حياته في الاستقرار، توفيت زوجته بعد 6 سنوات فقط من الزواج؛ لتتركه وحيدًا مع ابن وابنة صغار، فيضطر للزواج مجددًا بعد 17 يوم فقط من وفاة زوجته الأولى.


البداية

بمجرد أن بدأت حياة بيرم في العودة للاستقرار، هبطت عليه مصيبة جديدة، فجّرت ما لديه من غضب، وأخرجت قدرته الشعرية التي ظلت في الظل لسنوات. ذلك حين فوجئ بالمجلس البلدي يحجز علي بيته الجديد، وتطالبه بسداد ضرائب لا يعلم عنها شيئا. وكشكل من أشكال العصيان، نظم بيرم أولى قصائده للسخرية من المجلس، قال فيها: «أخشى الزواج فإن يوم الزفاف أتى.. يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي.. أو ربما وهب الرحمن لي ولدا.. في بطنها يدعيه المجلس البلدي». نُشرت هذه القصيدة في جريدة الأهالي، ليقرر بيرم ترك التجارة والتوجه للشعر، ثم وجد أن الزجل أكثر قربًا وأسهل انتشارا بين عموم الشعب، فبدأ في عرض الأزمات الاجتماعية في شكل زجل، حتى أُطلق عليه «هرم الزجل». وحين التقى بسيد درويش، طلب منه الأخير كتابة قصيدة تلهب عزيمة المصريين لمواجهة الاحتلال، فكتب قصيدة «أنا المصري».

النفي

«البامية الملوكي والقرع السلطاني».. قصيدة كتبها بيرم كعادته لمهاجمة الملك فؤاد، عقب ولادة ابنه الأول فاروق، أثارت غضب الملك حتى قرر نفي بيرم إلى تونس، موطن عائلته الأصلي، في 25 أغسطس عام 1920. وحين وصل إلى تونس، حاول البحث عن أهل والده ولكنهم رفضوه، فحاول ممارسة هوايته في الكتابة، إلا أن تضييق الشرطة عليه منعه من ذلك؛ فقرر السفر إلى فرنسا. في فرنسا، واجه بيرم ظروفًا قاسية، قال عنها: «كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثنائها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الأخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم.. وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت، وكان لاينقذني من تلك الحال سوى معجزات، عندما أنهض كالمجنون أبحث في كل أركان الحجرة عن أي شيئ فأعثر بالصدفة على كسرة خبز..أو بصلة مهجورة».

 

 

غلاف_أول_عدد_من_جريدة_المسلة_

جريدة المسلة أصدرها بيرم عام 1919

العودة

لم يطق بيرم الحياة القاسية في الغربة، بجانب بعده عن زوجته وأبناءه، فلجأ إلى حيلة ساعدته على العودة بالفعل، عن طريق اختصار اسمه في جواز السفر. ورغم ما تكبده من متاعب ومخاطر كي يعود إلى منزله وزوجته، إلا أنه بمجرد أن وصل إلى منزله علم أن زوجته أخذت حكمًا بالطلاق منه؛ باعتباره مغضوبًا عليه. بقي بيرم في مصر ما يزيد عن السنة متخفيًا، يرسل زجله وهجاءه الثوري للصحف بدون اسم، حتى كُشف أمره ونُفيّ للمرة الثانية لفرنسا. هذه المرة استمر بقاء بيرم في فرنسا لـ9 سنوات، عانى فيها في أكثر من وظيفة، ولم تنقطع محاولاته للعودة إلى مصر، حتى صدر ذات يوم قرارًا فرنسيًا بترحيل جميع الأجانب، فقال بيرم: «الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني .. والتانية تونس فيها الأهل جحدوني .. والتالتة باريس وفيها الكل نكروني».

بعد ترحيله من فرنسا إلى تونس، ومنها إلى أي دولة بشمال أفريقيا تمكن بيرم من الهرب والعودة إلى مصر، وعقب عودته تواصل مع جريدة الأهرام من خلال الكاتب كمال الشناوي لنشر كتاباته بالجريدة؛ حتى نال عفوًا وبدأ في كتابة الأغاني، وخاصة للست أم كلثوم.. حتى كتب لها أغنيتها الرائعة «هو صحيح الهوى غلاب؟»، ليتوفى بعد ذلك بسنوات، وتحديدًا في مثل هذا اليوم 5 يناير عام 1961 بعد معاناة مع مرض الربو، ليترك هذا التساؤل يبحث عن إجابة.. هو صحيح الهوى غلاب؟

شيماء عبدالعال

شيماء عبدالعال

صحفية مصرية مهتمة بالكتابة في ملف الأدب والثقافة