عبدالله الشافعي يكتب: ابتسامتي بتلك الليالي الباردة
في إحدى مكالماتنا الهاتفية في سكون الليل، سمع تنهيدتي.. فقال لي أعتقد أن وراء تلك التنهيدة حمل ثقيل! هلّا أخبرتني؟، فأجبته: حياتنا دون معنى ونعيش في حلقة مفرغة، نطارد ذكرياتنا وتطاردنا، ولا ندري من يريد أن يجهز على الآخر.
قال لي يا صديقي سأخبرك أمرا..
«بحلول فصل الشتاء الذي أحبه وعندما يشتد برده أتذكر ذلك الشتاء، منذ عام.. منذ عامين، حيث سواد الليل والنجوم والغيوم، صحراء قاحله.. أرضها لهيب بالنهار وبساط ثلجي بالليل، لا صوت يأنس تلك الوحدة في الليل غير نباح الكلاب وفحيح الأفاعي».
لم أكن في ذلك المكان المخيف مخيّرا، فقد ساقني القدر رغما عني لأكون هناك وسط آلاف لكني الوحيد الذي أٌقف بعيدا في العراء، ولم أعرف طريقا للخروج أو الاستنجاد بأحد، بعضهم ينظر لي بشفقة غير قادر على مساعدتي، والبعض الآخر ينظر لي على أنني شيطان تجسد في شخص آدمي يدعي البراءة لكنه غير ذلك.
تشتد البرودة فيزداد تكوّمي علي نفسي، يضغط فكّاي على بعضهما حتى يبددان ثبات أسناني التي كانت توشك على الخلع من مكانها، أعدّ الثواني واللحظات.. انتظر ظهور شعاع شمس يذيب تجمد الدم في عروقي، أتذكر البيت والعائلة والأصدقاء.
هل يشعرون بي؟ ربما لا وربما نعم؟ ربما يجلسون الآن أمام مدفأة يتّقون بها شرّ البرد ويشربون فنجانا من القهوة، يشاهدون إحدى حفلات أم كلثوم وهي تغني أغدا ألقاك؟ يتكرر السؤال في نفسي؟ أيأتي الغد، هل سألتقي بهم؟ تشرق الشمس ويتسلل الدفئ لعروقي.. أنسى ألم البرد ويقتلني ألم الجوع.. ألم الجوع يطغى على ألم العظام من البرد.. لكن ما الذي يمكنني أن أتناوله في هذه الصحراء وبهذه الأسنان التي لا تقوي على قضم قطعة من الخبز.
السبيل الوحيد كان في ابتلاع فتات الخبز مع بعض الماء، أشرب بعض من الماء وقبل أن ابتلعه أضع به قطعة خبز صغيرة وابتلعهما.. هكذا يمكنني البقاء حيا ولو لبعض الوقت.
تشتد أشعة الشمس ويزداد لهيبها، لا أجد ما اتقي به حرارتها، آلام بالليل وأخرى بالنهار.. برد قارس ولهيب حارق.
تتناثر من حولي قطع خشبية صغيرة، أمسك ببعضها وأحاول أن أجد لنفسي ما يلهيني عن آلام اليوم.. استطعت أن أصنع بقطع الخشب الصغيرة أشكالا مبهرة، أعجبتني الفكرة وانصب كل تفكيري على صنع الأشكال من قطع الخشب المتناثرة ومع كل محاولة ناجحة يغمرني الفرح وتعلو الابتسامة وجهي، غير مباليا بحرارة الشمس.. ينهمك عقلي في مهنتي الجديدة نهارا فيجبر الجسد على النوم ليلا دون الالتفات لما كان يأرقني في السابق من برد الليل وحيّاته.
استطعت أن أتغلب على ألمي وأحول محنتي إلى منحة، فقد اجتزت الصحراء وعدت لأهلي وأصدقائي وبيتي، أستمع معهم لحفلات أم كلثوم دون أن أشاركهم شرب القهوة لأني لا أستثيغها.
استكملت طريقي يا صديق، أجد أحيانا عثرات توقفني لكني لم أعد آبه لمشاكل الدنيا وهمومها، أنظر بين الحين والآخر لقطع الخشب مصدر سعادتي، وفي ذكريات المحنة لا أتذكر منها سوى نجاحي بتلك الأشكال الخشبية.
يمرّ شريط ذكرياتي أمام العين فتسخر منه ابتسامة تتسلل وسط دمعات انتصار العزيمة.. يا هذا.. ابتسم لذكريات ألمك، فإرادتك تكفيك وعزيمتك تشفيك من أسقام الوجع وآلام الذكريات.. مبدأ يغير مسار!
«يا صديقي.. لا تقصص وجعك».