في ذكرى مذبحة القلعة.. رُفعت الأقلام ولم يجف الدم بعد

في ذكرى مذبحة القلعة.. رُفعت الأقلام ولم يجف الدم بعد

السكون يفرض سطوته على الشوارع، لا صوت إلا حفيف الهواء البارد وهو يحتك بأوراق الأشجار، التي تستعيد خضرتها تأهبا للربيع.

إلا أن هذا السكون حلّ ضيفا مفاجئا وثقيلا، في ليلة كانت صاخبة للغاية، وتحولت إلى ليلة دامية محفورة في تاريخ مصر الحديث، لا يمحو أثرها الزمن، وإن طال.

البداية في مارس 1811

في تلك الليلة قبل أكثر من مائتي سنة، وتحديدا في مساء الأول من مارس عام 1811، حين غدر مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا بالمماليك، وحوّل الحفل الذي دعاهم إليه إلى مجزرة دامية أهدر فيها دماء أكثر من 500 من المماليك.

قبل تلك المجزرة بساعات، كانت قلعة محمد علي تضجّ بالصخب، كان قد دعا المماليك لحضور احتفال بخروج طوسون نجل محمد علي، على رأس حملة متجهة إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين.

بدأ الحفل طبيعيا، وجاء المماليك مُعتلين خيولهم، بكامل زينتهم، وسار الاحتفال كما كان مقررا له، وقُدم الطعام، حتى نادى المنادي برحيل الموكب.. كان مقصودا بالرحيل خروجهم من القصر، إلا أن الرحيل كان عن الدنيا بالكامل.

قرع الطبول مع صوت الرصاص

بدأ العزف الموسيقي، وقُرعت الطبول، وبدأ الموكب يسير منحدرا من القلعة، في مقدمته ومؤخرته مجموعة من جنود محمد علي.. الطريق ليس ممهدا للسير، الرؤية صعبة على أمراء المماليك.. لم يكن اختيار «باب العزب» كآخر محطة في حياة المماليك عبثيا..

فجأة.. سمع المماليك صوت صكّ الأبواب من خلفهم.. الجنود الذين كانوا يسبقونهم، استداروا وأصبحوا في مواجهتهم.. تسلق الجنود الصخور على جانبي الطريق.. دوى صوت رصاصة.. كانت هي إشارة البدء.. بدء المذبحة.. انهالت الطلقات النارية من جميع الاتجاهات.. الصدمة والمفاجأة كانا عنصرين ألجما المماليك، ولم تُتح لهم الفرصة للمواجهة أو الرد.. حصدت الطلقات أرواحهم وأراقت دمائهم.. لم ينج منهم أحد إلا القليلون.. قيل أن من نجى من هذه المجزرة كان الأسرع في رد الفعل، واستغل فرسه في الهروب قفزا من فوق أسوار القلعة.. القلعة التي تحولت من ليلة مُبهجة إلى «مذبح» لحاضريها.

لماذا مذبحة المماليك؟

اختلفت الروايات التاريخية حول أسباب محمد علي في التدبير لتلك المذبحة، إلا أن المؤكد أنها كانت وسيلته للانفراد بالحكم بعيدا عن المماليك، الذين لم يأمن مكرهم..

خارج أسوار القلعة.. اصطف الجماهير انتظارا لشاهدة الركب، وتحية الأمراء، وحين تسرب نبأ المجزرة ساد الهلع وسرى الذعر بينهم، تشتت الجمع وأغلقت، وهرع الجميع إلى بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة.. وساد الصمت...

عقب المذبحة.. انتشرت جماعات من الجنود الأرناؤوط يقتلون من يلقونه من المماليك وأتباعهم، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من المماليك، حتى تمكن محمد علي من السيطرة على جنوده.

ما زالت رائحة الموت تخيم على  مكان مذبحة القلعة، ورغم مرور أكثر من مائتي عام، ما زال من يمر بهذا المكان تنتابه رهبة لما وقع به، كأن المكان يأبى أن ينسى صرخات المماليك المستغيثة قبل موتهم. في بعض الروايات التاريخية.. يقال أن الدرب الأحمر اكتسب تسميته من الدماء التي انحدرت من القلعة عقب المذبحة، ورغم الجهود المضنية التي بذلها محمد علي لتنظيف الشوارع؛ إلا أن الدماء كانت قد صبغت هذا الدرب باللون الأحمر بالفعل.

 

شيماء عبدالعال

شيماء عبدالعال

صحفية مصرية مهتمة بالكتابة في ملف الأدب والثقافة