أمل الحب الذي يبعث «نيللي» العنقاء من رماد معسكرات التعذيب
ربما يظن البعض من قرائته نبذة عن الفيلم الألماني "العنقاء" قبل مشاهدته أنه سيتعرض لحياة الشعب الألماني بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وربما يكون ذلك صحيحًا إذا انتبه المُشاهد إلى بعض الأمور الدقيقة مثل تذمر خادمة المنزل بشأن عدم قدرتها على توفير الطعام بسبب الفقر وانتشار السرقة وحمل الأسلحة وتفكير اليهود الدائم في السفر إلى فلسطين.
وبينما تبدو جميع تلك الأمور مثالًا لمحاولة الشعوب التعافي من وطأة الحرب والنجاة من أوزارها ماديًّا، نجد أن الخط الرئيسي الذي تسير فيه تلك الأحداث كلها هو محاولة التعافي والنجاة وجدانيًّا من خلال بطلة الفيلم "نيللي".
نجد "نيللي" تقول لصديقتها في أحد المشاهد إن زوجها قد ساعدها على أن تنجو من معسكرات التعذيب التي أنشأها النازيون، وأعادها للحياة مرة أخرى عندما بقيت معه في منزله بعد تمكنها من العودة لبلادها.
مشاعر متأججة
يجسد الفيلم مجموعة من المشاعر الإنسانية المتأججة، إذ نرى في أحد المشاهد غضب صديقة "نيللي" بعد علمها بقرار الأخيرة التصالح مع زوجها الذي باعها للنازيين، وألمها لأنهم يضيعون بذلك التصالح مع فعلته صديقتها وأمثالها من دفاع دؤوب عن حقوق اليهود طوال فترة الحرب.
يصعب اختيار مشهد واحد للممثلة الألمانية "نينا هوس"، التي جسدت دور "نيللي"، نستطيع القول إنه جسد هذه الدرجة من المشاعر المتأججة، إذ أن جميع مشاهدها كانت تحتوي على جرعة مكثفة من المشاعر التي تفقدك القوة على تمالك أنفاسك أو بسط تقطيبة وجهك من شدة التأثر ببراعة تمثيلها.
فنجد في أحد المشاهد، التي كانت تحكي خلالها "نيللي" عن معسكرات التعذيب، أصعابها تتحرك بعصبية على جبهتها وهي تتذكر ما تعرضت له وأنفاسها التي تصارع دموعها لمنعها من السقوط أثناء الحديث وشفاها ترتعش وهي تحاول أن تصف ما شهدته بمعسكرات التعذيب في كلمات يمكنها بالكاد أن تصور حقيقة الوضع.
وعلى الرغم من أن الممثل الألماني "رونالد زيرفيلد" جسد دور الزوج الجشع الذي يسعى دون تراجع إلى الحصول على أموال زوجته التي يظنها قد توفيت، رغم تطليقه إياه، إلا أنه في كل مرة كانت تحاول فيها "نيللي" تذكيره بأنها زوجته وأنها لا تزال على قيد الحياة، كنت لتراه يتحول من ذلك الرجل المتوحش إلى آخر على وشك أن ينهار جسده من البكاء بدافع مشاعر مختلطة، أولها شعوره بالخوف أن تكون من أمامه هي حقًا زوجته التي خانها.
توظيف كامل لعناصر الفيلم
لم يكن أبطال العمل وحدهم من برعوا في تجسيد ذلك الصراع، ففي أحد المشاهد التي تحاول فيها "نيللي" تخفيف شعور "جوني" بشأن خيانته إياها وإظهار تصالحها مع المسألة، نجد الكاميرا تنتقل بينهما، فنجدها تارة تقطع رأس "جوني" وتُظهر "نيللي" كاملة، وتنتقل مرة أخرى فتختفي "نيللي" تمامًا ويظهر "جوني" كاملًا، لتقول في حديث غير منطوق أن الوشاية كان لابد لها أن تتسبب في اختفاء "نيللي" وإلا فإن زوجها كان ليُقتل. https://www.youtube.com/watch?v=zildFIFKjlc
هذه التوظيف لجميع عناصر صناعة الفيلم لم ينحصر في التصوير فحسب، ولكنه امتد للإضاءة التي لعبت دورًا محوريًّا منذ بداية الفيلم؛ عندما تعود "نيللي" إلى ألمانيا في عتمة الليل ووجها مخفيًّا خلف الضمادات من أثر التعذيب ولا تشعر بنبض حياة داخلها، حتى آخر مشهد؛ عندما تترك عائلتها وراء ظهرها ولا نرى منها شيئًا سوى جسد قد غلفته آشعة الشمس الساطعة وقد استعادت جزءًا ظاهريًّا من حيويتها، في إبراز واضح لسبب اختيار "العنقاء"- التي تُبعث من رمادها- اسمًا للفيلم.
لم يخل الفيلم من الرموز الأكثر وضوحًا، فنجد في أحد المشاهد التي تذهب فيها "نيللي" إلى أطلال منزلها القديم الذي دمرته الحرب، فتجد مرآة مكسورة إلى نصفين يعكسان صورتها مرتين، في إشارة إلى الصراع الداخلي بين حقيقة أنها لم تمت وبين شعورها بعدم وجود حياة بداخلها.
ربما توقع البعض أن تلعب الموسيقى الكلاسيكية دورًا كبيرًا كأغلب الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية، وبخاصة أن "جوني" كان يعمل عازف بيانو، إلا أن استخدام الموسيقى أثناء الفيلم جاء محدودًا، وعوضًا عن ذلك، فقد امتلىء بالأغاني الألمانية والأمريكية التي أدت كل واحدة منها وظيفتها في توصيف شعور بطلة الفيلم في اللحظة التي تُسمع فيها الأغنية.
جدير بالذكر أن طائر العنقاء هو طائر خيالي مذكُور في الأساطير العربية واليونانية، تقول حكايته أنه مات محترقاً ثم يخرج من الرماد حياً، في موت وبعث دوري لا يتوقف.