في ذكرى وفاته.. جبران خليل جبران «حي مثلك»
«ليتصور القارىء قبل إقدامه على مطالعة الكتاب مرجا واسعا في سفح جبل».. بتلك الكلمات أرشد الشاعر المُقبل على قراءة قصيدته الشهيرة المواكب، التي غنّتها فيروز باسم «أعطني الناي وغنّي».
الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جُبروا.. والشرُّ في الناسِ لا يفنى وإِن قُبروا
وأكثرُ الناسِ آلاتٌ تحركها.. أصابعُ الدهر يوما ثم تنكسرُ
بتلك الأبيات، استهل الشاعر قصيدته المكونة من أكثر من 200 بيت، كُتبوا بشكل يشبه رباعيات الخيام، وطُبعت في كتاب مُزين برسوم رمزية تعبر عمّا بداخل القصيدة من عشق للطبيعة ومفرداتها.
الوحدة عاصفة هوجاء صمَّاء تحطِّم جميع الأغصان اليابسة في شجرة حياتنا
ولكنها تزيد جذورنا الحيِّة ثباتا في القلب الحيِ للأرض الحية
هكذا يقول الشاعر الكبير جبران خليل جبران، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم، بعد حياة مليئة بالألم، الاغتراب، الفراق، الوحدة والمرض.
ولد جبران خليل جبران السادس من يناير عام 1883 بشمال لبنان، وكانت تابعة للدولة العثمانية وقتها. ولد جبران لأسرة فقيرة، ينصرف فيها الأب إلى السُكر والقمار ويترك العمل، فاضطر «جبران» إلى الاكتفاء بكاهن القرية لتعليمه بدلا من المدرسة.
تعلم جبران في صغره الإنجيل والعربية والسريانية، بجانب مبادئ القراءة والكتابة من الطبيب الشاعر سليم الضاهر، الذي كان سبيله للمطالعة والقراءة، قبل أن تقرر أمه الهجرة إلى أمريكا بصحبة «جبران» وأخيه وأختيه وهو في الثانية عشرة من عمره. [caption id="attachment_66701" align="aligncenter" width="363"] صورة لجبران وهو في الـ16 من عمره وفقا لويكيبيديا[/caption]
بعد الاستقرار في أمريكا، بدأ جبران في التردد على المدرسة، وتعلم فيها الإنجليزية وبدأ في ممارسة هوايته المفضلة الرسم، وبرع فيها بمساعدة معلمته.
بعد ثلاث سنوات، عاد «جبران» إلى لبنان ليتلقى تعليمه في مدرسة إعدادية، ثم معهد تعليم عال يدعى الحكمة، وهناك بدأت موهبة جبران الشعرية في الظهور وأسس مجلة أدبية طلابية مع أحد زملاء دراسته.
لم تكن العلاقة بين جبران ووالده جيدة، ما جعل «جبران» يميل إلى صداقة أستاذ طفولته سليم الضاهر، حين نشأت قصة حب بينه وبين ابنة سليم، استوحى منه روايته «الأجنحة المتكسرة»، وخاصة نهايتها المأساوية.
عام 1902، عاد «جبران» إلى أمريكا بعد وفاة أخته المريضة بالسل بأسبوعين. بعد عام، توفيت والدة «جبران» بالسرطان، وتوفي أخاه بالسل أيضا، ليظل وحيدا مع أخته الأخرى، التي اضطرت للعمل في الخياطة.
ليس الشعر رأيا تعبِر الألفاظ عنه.. بل انشودةٌ تتصاعدُ من جرح دام أو فم باسم
هكذا عبر «جبران» عن شعره الذي يفيض من ألمه الدائم، فبعد سلسلة الوفاة التي ضربت أسرته الصغيرة، بدأ «جبران» في الاتجاه إلى الشعر، وأسس الرابطة القلمية مع عدد من الشعراء العرب بالمهجر.
انصرف جبران للتفاعل مع قضايا عصره، وخاصة التبعية العربية للدولة العثمانية، التي رفضها كليّة، قائلا «أنا لبناني ولي فخر بذلك، ولست بعثماني، ولي فخر بذلك أيضا.. لي وطن أعتز بمحاسنه، ولي أمة أتباهى بمآتيها، وليس لي دولة أنتمي إليها وأحتمي بها».
كما كان للتناقض بين التقاليد الشرقية في لبنان والانفتاح في أمريكا أثره عليه، حيث جعله رافضا للكثير من الأعراف الشرقية والعربية، وخاصة سلطة رجال الدين، سواء الإسلامي أو المسيحي على العامة.
طوال حياته، التي استمرت لـ48 عاما فقط، ألف جبران الكثير من الكتب والروايات، باللغتين العربية والإنجليزية، منها النبي، الأجنحة المتكسرة، الشعلة الزرقاء «رسائله إلى مي زيادة»، المواكب، العاصفة، الأرواح المتمردة، البدائع والطرائف وغيرها من المؤلفات والقصائد.
أما عن الحب، فلم يكن لجبران حظا سعيدا معه، فهام عشقا بالأديبة مي زيادة، ودامت مراسلاتهما لعشرين عاما، بدءًا من 1911 وحتى وفاته، ولم يلتقيا ولو لمرة واحدة، إلا انها ظلت وفية له بعد وفاته ورفضت الزواج طوال عمرها.
في 1931، اشتد المرض على جبران، حيث كان مصابا بالسل وتليف الكبد، حتى قضى نحبه في مثل هذا اليوم، 10 أبريل 1931، تاركا وصيته بأن يُدفن في صومعته القديمة بلبنان.
تحقق له ما تمنى عام 1932، حين اشترت له أخته المبنى الذي أراده، ونُقلت رفاته إليها، بجانب 440 لوحة ورسومات ومخطوطات أصلية له. سُمي هذا المبنى بمتحف جبران؛ للتعريف به شاعرا وراسما وفيلسوفا. [caption id="attachment_66748" align="aligncenter" width="750"] أوصى جبران أن يُكتب على قبره تلك الكلمات.. أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك. [/caption]