رحلة سمكة.. من بوري بيلعب في المية لفسيخة «معفنة»
إن كنت تسير في شوارع المحروسة، في أي مدينة أو حي أو محافظة، وزكمت أنفك رائحة أسماك حادة، لتخترق جيوبك الأنفية وتتغلغل داخل رئتيك، فلا تقلق إنه موسم الفسيخ، إنه شم النسيم.
في هذا اليوم، تزدحم الحدائق العامة والخاصة، حتى وإن كانت مجرد مساحة خضراء بوسط الشارع، ستجد بها أسرة مصرية تقليدية مكونة من أب وأم ومجموعة من الشياطين الصغار يلعبون من حولهم لحين تحضير الأم الوجبة المنتظرة، حين يستعد الفسيخ المسكين لأن يُلتهم.
لحظة.. قبل أن تصل تلك السمكة إلى يد السيدة لتضعها في الطبق كي يتناولها حمادة، كيف كانت رحلتها؟ وكيف وصلت إلى ذلك المصير؟
البداية
الفسيخ أو السمك المملح أكلة فرعونية أصيلة، ظهرت بين الأطعمة التقليدية في الاحتفال بعيد شم النسيم في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل.
حينها، لم يكن هناك وسائل لحفظ الأطعمة مثل الثلاجات حاليا، فكان الملح هو الحل لقتل ما بها من ميكروبات والإبقاء على السمك سليما لأطول فترة ممكنة، وأظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها، وبالتالي بدأ السمك المملح كوجبة مصرية تقليدية.
أما عن أصل التسمية، فهي مشتقة من فعل فَسَخَ، أي تمزق وتقطع، وهو ما يحدث لأنسجة السمك حين يظل مغمورا بالملح فترة طويلة.
في البحر سمكة
عادة ما يُصنع الفسيخ من السمك البوري، وهو نوع من الأسماك ينتشر في البحرين الأبيض والأحمر على السواء، كما يمكن تربيته في المزارع، مثل المزارع السمكية بمنطقة الحامول بكفر الشيخ، والتي تعد أحد أبرز مورّدي الفسيخ لباقي محافظات مصر.
يتراوح طول السمكة البوري عادة بين ٣٠ و٧٥ سم، وتتغذى في البحار على العوالق البحرية أو «العليقة» كما يُسميه «الفسخانية»، أو السبلة في معظم المزارع السمكية، والسبلة هي مجموعة من المخلفات العضوية معالجة لتصبح غذاءً للأسماك.
وقعت في الفخ
لصيد السمك البوري طرق خاصة و«تكنيك» يحتاج إلى صبر، ووفقا لمدونة الصيّاد المصري، فإن إحدى أسهل طرق صيد السمك البوري تكون نهارا عند أرصفة الموانيء والسقالات والبلوكات.
وبصرف النظر عن طرق صيد البوري بأعداد كبيرة في المرة الواحدة، فإن للبوري عجينة خاصة تُصنع له من الدقيق والماء وتُقلى في الزيت؛ كي تُصبح طُعمه المفضل، إلا أن البوري حريص جدا في مهاجمة الطعام، ولا يتعلق بالصنارة بقوة مثل معظم الأسماك الأخرى.
التجهيز
بعد صيد السمك البوري، يبدأ تجهيزه بتنظيفه من الداخل أولا وإزالة البطارخ منه، ثم يُغسل جيدا ويُترك ليجف منه ماء البحر المالح والدماء على الأقل يومين.
تأتي بعد ذلك مرحلة التمليح، حيث يوضع الملح الخشن، ويفضل أن يكون من أجود الأنواع «السكري»، وتُحشى به الخياشم جيدا، ويُغطى جسد السمكة به بالكامل.
في المنازل، يمكن لف السمك في أكياس كثيرة لمنع دخول أو خروج الهواء، وتُحفظ في مكان جاف وتُترك أول 3 أيام، وبدءًا من اليوم الرابع تُحرك من جانب لآخر، حتى تُتم 3 أسابيع وتُصبح جاهزة للأكل.
أما لدى المحلات المتخصصة أو «الفسخانية»، فيتم تبخير السمك بعد تمليحه، ثم يوضع أمام التكييف لضمان قتل الميكروبات، فيما تقوم محلات أخرى بوضع الأسماك في الشمس، إلا أن ذلك قد يُفسد السمك.
قبل ما تضرب رنجة وفسيخ.. إزاي تعرف الصالح من الفاسد؟
تحضيره في المنزل
بعد أن تشتري الفسيخ، تبدأ في تجهيزه بإزالة ما بقي من قشور على جلد السمكة، ثم إضافة الليمون والزيت، وتكتمل الوجبة بالبصل الأخضر، وتنتهي بكوب شاي بالنعناع «عشان يحبس».
وهنا تأتي آخر مراحل الفسيخ، إما أن يكون صالحا وبذلك تكون «وجبة هنيّة» وتنقضي، أو يكون فاسدا وبذلك يُدخلك أنت في رحلة بين المستشفيات لعلاج التسمم «بعد الشر».
خليك في المضمون
الفسيخ والرنجة وما شابه من الأطعمة تعتمد في المقام الأول على النظافة والجودة، وإن كان أكلها موسميا، فيجب عليك تحرّي أفضل الأماكن المخصصة لبيع أنواع جيدة وسليمة من الفسيخ، مثل فسخاني شاهين.