رئيس التحرير أحمد متولي
 علي عمر يكتب: من أول السطر

علي عمر يكتب: من أول السطر

# بقايا_ سراب

نودع عامًا ونستقبل آخر، هذه اللحظات من كل عام تتكرر الكلمات والوعود وتبدأ من جديد رحلة الخيال لتطلق عنانها كي ترى ما لم تره في سنينٍ مضت، عالمٌ يجوبه الأحلام، تفاؤل يتجدد وأملٌ يُحدث نفسه كأنه أول عام في حياتنا بأن يأتينا خيرٌ مما سبق، جميلٌ ذلك الشعور ببدايةٌ جديدة نضعها لأنفسنا لما بقي من حياتنا، ولكن متى ستحين تلك البداية؟!

لِمَ أغلب الناس في نهاية كل عام تدعو بألا تتكرر تفاصيل عامها الماضي؟ فبعضهم يصفها بأنه كابوس وسيمحى بمجرد انتهاءه وكأنه لن يأتي غيره والبعض يذكر السيئ منها بأنه كان سائدًا على أغلب الأيام، فعام يمضي وراء عام، مشاعر تتجدد وأفكار تتبدل وأبدانٌ يهددها اَلكِبر على مرور تلك السنين، ولكن لم نتيقن بعد طبيعة سيرها!!

عام يمر أمامنا الآن في لحظات، البوم من الصور يبدأ في العرض أمام أبصارنا، منها ما نريد أن نحتفظ بها للأبد ومنها ما نرغب أن نمحوها من ذاكرتنا فور حدوثها، ولكنهما يبقيان ويصبح كلاهما في أرشيف الذكريات.

ففي ليلةٍ شتاؤها دفء وسماؤها يزينها نور البدر والنجوم كجوهرة تلمع من داخل كنز مدفون، جاء صديق لزيارتي لم نتجالس منذ عام أو يزيد، جاء بوجهه القديم أو ربما عبثت به الحياة، فقد جاء ليحادثني قليلا رغم أننا كنا بالسابق نجلس دوما سويا، تُرى ما الذي ذكره بي حتى ياتي لبيتي؟ بدا حديثه بنبرة حنين جائعة لم أعتادها منه...

 " كنت أتجول بين أرواح الصور، فوجدت بها براءة الطفولة، أتذكر أيامي حينها فما كنت أرى سوى حب مَن حولي ونظرتهم لي وكأنهم ودوا لو كانوا مثلي، فما كان بي كسائر الأطفال من نقاء القلب وجراءة اللسان... وأثناء حديثه أثارتني دموعه المحبوسة بكلماته التي أجبرت جوارحي للإنصات إليه

" وأثناء مروري بين الصور كنسمات البحر في ليلة الربيع تشبث بصري بصورة بها وجوه اشتقت لرؤياهم، آه فكم آلمني وجع الفراق فكل ما أتذكره أحبةٌ كانوا يحتفلوا معنا ونباركهم ونرى البسمة تنير قلوبهم ونتآنس بنظرة رضاهم، باتوا الليلة تحت الثرى، فلم نعد نستطع أن نشاركهم فرحتنا ولا حتى أوجاعنا فما تركوا بداخلنا إلا ذكرى تحرقنا على فراقهم وتذيب القلب كلما نذكر حنانهم، فذكرى الحنين لن تنبرى فقد طبُع الود وتعلق بالروح، فحين لا ترى العين من كان بالود يوصلها زرفت دموعًا وما للدمع يُرجع أمرًا قد قُضيَ، وما للوم النفس من نفعٍ، لكنت تمسكت بجوارهم وتوسلت جوارحي وأعلمتهم بحبي لهم، وما كان ظنًا منا أن ذات الصور المعلقة التي تجمعنا بهم تصبرنا! ولكن ما النفع! فما بها إلا أن تزيدنا شوقًا، فدواء فراق المحبين التجرد من هوى الفاني والتمسك بمن هو أبقى لعله يُلاقينا بهم في الحياة الأبدية، فلا فراق حينها ولا ألمًا، أنؤمن بالفراق ولا نحتمل عذابه، وبأيدينا الدواء ونخشى مذاقه فكيف الشفاء!!

علقت بذهني كلماته وأرثت بوجداني ما أتغافل عنه، ما كان بنا إلا أننا تعانقنا والدموع تصاحب كلماته، وحتى هدا مما كان عليه، تعجبت بما بدا السرد فيه وكأنه يصف عالم غير الذي نحيا به.. 

" فسارت بي الأيام قليلًا فقابلت ذلك الوجه الأبهم وبدأ الصراع بيننا، كنت أعرفه كأنه جسدًا جُمعت أعضاؤه، كل عام يرتدي ثوبا مختلف ويترقبني كالبومة البنيه في ظلام دامس، اسمه الملل ابن اليأس ابن الإحباط؛ عائلته ثرية، إنهم من أكلي قلوب البشر، أهدافهم واضحة ومعلنة منذ بدء الخليقة، هدر أوقاتهم، لهوهم في تفاهات الأمور، تمسكهم بدنياهم، حقن صدورهم بالحقد والكيد، وجعل حياتهم بلا حياة، أباهم إبليس الملعون من فوق السموات، لهم عملاء من بني الإنسان يلبون أوامرهم، وينفذون رغباتهم، فقد أغروني بما في أيديهم لأنضم لعشيرتهم. استمر الصراع ولم ينته ومع كل مرة انتصر يخرج من أحشائه من هو أقوى وأشر، تُرى ماذا تظن يا صاحبي.. أيصمد سيفي وينتقم أم سيظل الصراع قائمًا؟!!

صفعني سواله المبهم بإجابة أكثرها إبهامًا تصحبها إبتسامة ضعف.. رفقا بنفسك.. لعله خيرٌ يا صديقي..

عندها تلونت الذكريات بفرشاة جافه تحمل كل ريشة لقطات ترسم ذاتها على لوحة الحياة تلونها ألوان باختيارنا تارة وبألوان القدر تارة أُخرى حتى يبدو للوحه معنى في النهاية

 وبينما أجلس ممدًا على فراشي، نبهتني نغمات هاتفي لتطيح يدي بفنجان القهوة بجانبي الذي حضرته لأفيق من غفلتي!! وبفزع صوتي، أين أنت يا صاحبي؟ لم تكمل لي قصتك التي جئتني من أجلها.. أين ذهبت؟ إنه صديقي أم إنها نفسي كانت تحدثني؟.. سرابٌ حولي فلا يوجد بالغرفة سواي وفنجان القهوة المحدوف بعيد عني.. لما يا صديقي تخليت عني؟ أم أنك من الأساس لم تكن معي؟! من كان يحكي لي.. أطيفٌ منك أم أن نفسي خدعتني؟! فتبا لهاتفي وتبا للقهوة التي لازالت تنزف أمامي، فلقد مر كنسيم عابر، أفقتني على حقيقتي وعلى فراقك التائه بداخلي.

ألم تكن تذكرني بلحظات النجاح والفرح والإبتسامة التي مروا من هنا منذ قليل، تلك المواقف التي تجمعني بأحبتي وأصدقائي، والضحكات النابعة من داخلي، فتنهدت أنفاسي بهدوء مع إبتسامة أهداب العين حين يلتقيا، متأملة اللقاء بعد طول غياب.

كم فقدت لقائك والحديث إليك، فأنت من تراني على حقيقتي، أنت من تصارحني بما يغتابني به من حولي، ولدت معي وكبرت بداخلي، أتذكرك مرة وأتناساك عمرًا، فلا تغضب!! فوعدًا مني لن أنساك، فقد علمت قدرك، فقد صرتِ من الأن صديقي، بلا ورفيق دربي!!

 ربطنا الحياة بأعوام، ووثقنا الأعوام بحزمة من الأيام، فالعام يفرح لإكتمال أيامه، ولكن أي شي قد أكملت.. وعلى أي شي تكمن فرحتك؟!

برواز الحياة ملامحه قاسيه، تخنقه الظروف والأعذار، وإن وصل لروح الصورة شوه وقتل جمال ما فيها، فبرواز العام هو الأيام وروحه هو تيقظك فيها، فقتلها أو إحياءها ستكون بلمسة فرشاتك بها!! فأصنع عامك الخاص بك وأجعل رأسه بأي وقت شئت، ولتزينه بنظرة حب وهمسة إشتياق، أرسلها إليك أحدهم ولازالت قيد الإنتظار، فلا تتردد!! فتجديد العهد للنفس كري الأرض القحطة بماء المطر لتحيا وتثمر، فكم بداية مرت كالطيف المسحور!! الفرص تأتي دومًا ولكن سرعان ما نرمي بالحجارة غرقًا وعند المنية يخبروك أن أحدهم كان بالأعماق فوجد بالماء ماسًا!!

علي عمر - كاتب حر 
المقالات والمشاركات المنشورة في قسم «شباك» تعبر عن رأي كاتبها، وليس لـ«شبابيك» تدخل في صياغتها ولا مضمونها

شبابيك

شبابيك

منصة إعلامية تخاطب شباب وطلاب مصر