رئيس التحرير أحمد متولي
 لعنة مواقفك غير المنتهية.. حاضر تعيس ومستقبل مهدد يمكن تغييره الآن

لعنة مواقفك غير المنتهية.. حاضر تعيس ومستقبل مهدد يمكن تغييره الآن

لم تكن غرام ممدوح تعرف أن موقفًا واحدًا في الطفولة سيترك بها أثرًا لباقي عمرها، كأنه جرح لا يمكن الشفاء منه بالزمن كأي جرح آخر، بل يظل على حاله دون التئام.

في السنة الرابعة الابتدائية، سأل المدرس جميع التلاميذ عن معنى «الزلزال» ولماذا يحدث فجأة للأرض؟ فأسرعت «غرام» التلميذة (الشاطرة) بالإجابة عن سؤال الأستاذ ببراءة:

- عشان كوكب الأرض موجود على قرنين، وكل 100 سنة الأرض بتتنقل من قرن للتاني، بسبب الحركة دي بيحصل الزلزال!

كانت إجابة «غرام» مستوحاة من سذاجة الأطفال المعروفة في لعبها مع رفيقاتها، بل إن أشباه هذه الأساطير موجودة بالفعل عند الإغريق والشعوب البدائية، لكن المدرس لم يتفهم هذا وإنما سبّب عقدة أكيدة لتلميذته المجتهدة.

موقف «ضاغط»

صورة ذات صلة

سخرية عظيمة أبداها الأستاذ لدرجة أنه غادر المكان ضاحكًا، تاركًا التلاميذ الآخرين يشيرون لـ«غرام» التي صارت أضحوكة الفصل بجدارة، ولم تعرف كيف تنهي الموقف لصالحها، والآن مرت السنين وتخرجت «غرام» من الجامعة.

تقول عن شعورها وحالها الآن: «لغاية دلوقت مش بقدر أجاوب في كورسات اللغة، بخاف أنطق مثلاً الكلمة غلط وتحصل تريقة، ولما بقترح فكرة بقولها بصوت هامس غصب عني».

استشاري الطب النفس جمال فرويز يرى أن «غرام» تعرضت لما يُسمى بالموقف «الضاغط»، أي الموقف الذي يسبب ضغطًا كبيرًا على صاحبه، ومن ثم يحدث «انفجار» نتيجة هذا الضغط.

رد الفعل

نتيجة بحث الصور عن ‪situation‬‏

تعرض المرء لضغط شديد في المواقف المختلفة يجعله على حافة انفجار حتمي، منه النوع الخارجي الذي يتخذ فيه الإنسان رد فعل تجاه الموقف، أو الانفجار الداخلي في نفسه، وفق «فرويز».

الانفجار الخارجي يحدث بأشكال متعددة لتفريغ الحرج والإحباط الذي شعر به فجأة، نتيجة سخرية المعلم كما في حالة «غرام» أو بسبب مضايقة من زميل العمل أو إجراء ظالم من المدير.

قد يصرخ الإنسان في وجه هذا الظلم والضغط الذي يتعرض له إذا كان الغضب من طبيعته، أو يرد بذكاء وإفحام ليحرج الطرف الآخر الظالم، بحسب التعبير العامي «يقلب الترابيزة عليه»، المهم أن يخرج الضغط ويريح نفسه من العبء.

صورة ذات صلة
صورة متخيلة للنحوي الأشهر «سيبويه»

يُذكر أن العالم النحوي الشهير «سيبويه» أخطأ في مرة أمام أستاذه وكان ما يزال طفلاً مندفعًا، قال له أستاذه أمام زملاءه الصغار «لحنت يا سيبويه» أي أخطأت لأن اللحن في اللغة هو الخطأ.

هنا رد التلميذ ببساطة لا تخلو من الأدب «لا جرم، سأطلب علمًا لا تلحني فيه»، ويعني «سيبويه» بهذا أنه سيجتهد في طلب العلم لدرجة أن أستاذه لن يستطيع إمساك خطأ واحد عليه، وهذا ما حدث وصار «سيبويه» من أعظم علماء النحو.

انفجار داخلي

صورة ذات صلة

إذا لم يخرج رد الفعل المناسب وحبس الإنسان مشاعر الحرج والضيق بداخله بعد الموقف الضاغط ليصير «موقف غير منتهي»، سيحدث الانفجار داخله هذه المرة، وقد يسبب له آلامًا جسدية مختلفة.

يضيف الدكتور «فرويز» أن على المدى الطويل يسبب الموقف غير المنتهي عقدة لصاحبه تمتد لسنوات طويلة، ربما ينسى الموقف نفسه الذي لم ينهيهه ويبقى أثره في سلوكه وتصرفاته وتعامله مع الناس.

أحيانًا يشعر المرء منا بحب مفاجئ أو ضيق بلا سبب نحو شخص غريب عنه، ما يحدث هنا أن أثر العقدة القديمة ما زال موجودًا، فالشخص الغريب مرتبط بالموقف غير المنتهي، حتى لو نسى صاحب الموقف أصلاً.

مع تذكر المريض في العيادة النفسية للموقف إياه، يعرف أن الشخص الذي كرهه بلا سبب يشبه الشخص الذي ظلمه في الماضي، أو يرتدي نفس ملابسه، أو يضع حتى نفس عطره.

كيف تنهي مواقفك؟

صورة ذات صلة

في كتابه «الخروج عن النص»، يعدد استشاري الطب النفسي محمد طه خمسة نتائج حتمية للمواقف غير المنتهية وأثرها السلبي على الإنسان وهي:  

- العودة مستحيلة

يرغب الإنسان في العودة بالزمن لينهي الموقف السيئ بطريقة أخرى أفضل، يرد فيها على الظالم ولا ينفجر داخليًا، لكن هذا بالطبع مستحيل بالمنطق والفيزياء الحالية، فلا يوجد آلة زمن للأسف.

- البقاء السلبي

يبقى الإنسان بلا علاج مع عشرات المواقف غير المنتهية التي تقيده وتحرمه من الحياة النفسية السليمة، وهكذا لن يزداد الإنسان إلا سوءًا وضيقًا، وفي كل علاقة تقابله سيجد موقفًا من الماضي يؤثر عليه ويتعسه.

- العودة الممكنة

صورة ذات صلة

يعود الإنسان لمن ظلمه أو أحرجه ويواجهه بخطأه في حقه، ويخبره ببساطة أنه فهم الحقيقة وأراد أن يغلق هذا الموضوع، وهكذا ينهي الموقف ولو بعد سنوات طويلة، ويخرج الانفجار للخارج أخيرًا بدلاً من الداخل.

المشكلة في هذا الحل أن الشخص الظالم قد يكون في مكان آخر أو مريض أو ببساطة ميت، وهنا يلجأ الشخص الذي يريد العلاج إلى المحاكاة في العيادة النفسية.

يتخيل وجود هذا الظالم جالسًا أمامه بكل تفاصيله ويعترف بمنتهى الصراحة عن مدى غيظه وضيقه منه، يشتمه إذا أحب أو يودعه أو يصافحه، المهم أن ينتهي الموقف بسلام.

- المسامحة

هذا الحل يأتي بعد الحل السابق، أن يعفو الشخص عن الظالم ويسامحه بعدما انتهى الموقف، بنفس مبدأ «العفو عند المقدرة» وهذه الدرجة لا تتوفر لجميع الناس، لكنها تسبب السلام النفسي بلا شك.

- الإحسان

هذه الدرجة هي الأسمى على الإطلاق من التوافق النفسي، ولا يكتفي فيها صاحب الموقف بالمسامحة فقط وإنما يحسن إلى من ظلمه وأحرجه، ويساعده ويصبح صديقه مثلاً، لكن هذه الدرحة لا تأتي إلا بعد تنفيذ المرحلتين السابقتين.

محمود حافظ

محمود حافظ

روائي وصحفي، مهتم بالسينما والأدب ومزجهما بالتاريخ والفلسفة