الهروب إلى عالمنا الداخلي.. احذر إدمان الخيال العميق
اعتاد «مصطفى» منذ صغره على الهروب إلى خياله، فهو لا يعيش في الواقع بقدر ما يعيش في عالم آخر بداخله، هو من صنعه بنفسه، ويقضي فيه الوقت مع شخصياته المفضلة.
والأهم من هذا، أن «مصطفى» هو ملك هذا العالم بالطبع، فيفعل ما يحلو له، وينتصر على أعدائه ويحقق مراده، وهو لا يهرب من الواقع فقط، بل يحقق ذاته في الخيال، دون أن ينعزل عن الناس، كان يستغرق في خيالاته في أثناء الدراسة، وفي الفصل، أو في المواصلات.
لقد تحول الهروب إلى إدمان، وصار «مصطفى» يعاني في الواقع أكثر من الماضي، فهل نفعه الهروب في عالمه الداخلي، أم أخطأ في هذا الأمر من الأساس؟
دفاع نفسي
عالم النفس الشهير سيجموند فرويد تحدث عن الهروب في كتابه «المدخل إلى التحليل النفسي»، وذكر أن الهروب في حد ذاته سلوك طبيعي، وهام في حياة أي إنسان طبيعي.
الإنسان في الواقع يهرب منذ الطفولة، وحين يضربه الأب أو يحتد عليه في الكلام، يهرع إلى ركن بعيد، ربما يرسم على الحائط في غيظ، أو يكتفي بالبكاء والصمت.
ومع مرور العمر والسنين، يهرب الإنسان بطرق أخرى من مشاكله في العمل أو الزواج، مثل تعاطي المخدرات أو الدخول في علاقة مشبوهة، أو حتى الانعزال وحيدًا عن الآخرين، مما يجر عليه المزيد من المشكلات.
هذا السلوك ليس إلا آلية دفاعية، يمارسها الإنسان كي يحفظ توازنه العقلي، يهرب إلى أي منفذ من صعوبة حياته، ومن أهم هذه المنافذ الخيال والعالم الداخلي، فهي لا تكلف صاحبها الوقت والجهد والمخاطرة، ويكفيه أن يتخيل ويغيب بذهنه عن الواقع.
العالم الموازي
الطبيب الباحث في علم النفس كيرلس بهجت في كتابه «التجربة الفكرية»، ذكر أن العالم الموازي Daydreaming هو الحل السحري لكثير من مشاكلنا، مثل حالة «مصطفى» التي تكلمنا عنها في البداية، فهو يوفر الابتعاد عن الواقع وحسب لفترة معينة.
لكن «بهجت» يشير إلى نقطة أخرى، فكل ما يفعله الإنسان في خياله يبقى داخله ولا يخرج لحيز التنفيذ في الأغلب، وهكذا يتحول الخيال والأحلام إلى كابوس، كأنه فيلم سينتهي مهما حصل، وفي لحظة تتر النهاية يصطدم المشاهد (الإنسان الهارب) بالواقع الأليم.
هنا يجد الإنسان نفسه في موقف صعب، إما ان يقاطع خياله وأحلامه ويعيش في الواقع فقط، وعندها سيحرم نفسه من راحة وتسلية مجانية، وإما أن يتحول إلى مدمن للهروب، وهنا تبدأ مشكلة أخرى أعظم.
إدمان كامل
في فيلم Inception، يدخل البطل في الأحلام لفترة قصيرة عن طريق جهاز خاص حتى يحصل على معلومات معينة من صاحب الحلم، ولكنه يفاجأ بأشخاص يستخدمون الجهاز كمكان آخر يعيشون فيه، وكأنه عالمهم الخاص بهم، لقد زهدوا في حياتهم الأصلية.
دكتور كيرلس يؤكد أن هذا ما يحدث في الواقع أيضًا بعيدًا عن الفيلم، ويشير إلى أن 4% من المجتمع يقررون البقاء في أحلامهم فقط، هؤلاء يملكون خيالاً زائدًا إلى درجة المرض، فكلما واجهت هؤلاء المشاكل يسرعون إلى الخيال، يخلقون شخصيات جديدة ويغيرون كل ما حدث لصالحهم، يصبحون أقوى وأعظم في الوهم.
هكذا يصبح الهروب أسلوب حياة ثابت مع الوقت، لكن هل الخيال إذن سيء إلى هذا الحد؟ أم أن له فائدة أخرى بخلاف المتعة المؤقتة المجانية؟ وهل يدفع الخيال صاحبه أحيانًا إلى الأمام؟
الخيال طموح
استشاري العلاقات النفسية والأسرية محمد هاني، أشار إلى فائدة الخيال التي تعتبر هبة إلهية في حد ذاتها، حين يكون بمثابة طموح لكل من يتخيل نفسه أهم وأكبر في عمله ووظيفته.
فكل إنسان منا لديه شخصيتين، واحدة في الواقع وأخرى في الخيال، وبطبيعة الحال الشخصية الخيالية يمكنها فعل أي شيء، ويمكنك أن تتخيل نفسك مجدي يعقوب إن كنت طبيبًا، أو محمد صلاح إذا كنت تهوى كرة القدم، هذا من حقك طالما أنك تطمح وتسعى للأفضل في عملك.
مشكلة الخيال الأصعب هي أن يستخدمه صاحبه للهروب، أو يتخيل شيئًا لا يستطيع فعله، فهل يمكن لمحمد صلاح أن يكون مثل مجدي يعقوب أو العكس؟ المثل الروسي يقول «من خُلق للمشي لا يمكنه أن يطير».
تخيل نفسك بطل مرعب في هذه الروايات.. جمد قلبك
تخيل واحذر
الخيال مثل أغلب الأشياء في حياتنا، إذا زادت عن حدها تنقلب لمرض، والخيال في عالمنا الداخلي يساعد بقدر ما يضرنا، وإليك هذه النصائح لأجل صحة خيالية أفضل:
تخيل بعمق إذا قررت
الطبيب وباحث علم النفس كيرلس بهجت، يذكرك بأن جرعة الخيال الصحية مسموح بها، هنا لا تسمى هروبًا وإنما هي نزهة لطيفة، فلو أدرت أن تتخيل، افعل هذا بعمق وقوة.
تخيل واسرح في حلمك كما تحب، خذ نصيبك بأقصى ما يمكن كأنك تشاهد فيلمًا مع أكل الفشار، واغلق الهاتف المحمول، لكن اعلم أن الأمر مؤقت، وأنك ستعود للواقع لا محالة.
تخيل في حدود عملك
حين تسرح في خيالك وأحلامك، تذكر أن تفعل هذا في محيطك ومنطقتك، لا تحلم بشيء لن تملكه على الإطلاق، مثل أن تكون مغنيًا بلا أي صوت جميل، أو لاعب تنس دون المهارات الرياضية.
هذه الخيالات ستجر عليك المشاكل في كل مرة حين تدرك عجزك عن فعلها في الواقع، فالسمكة لا يمكنها الطيران بالطبع، لكن التخيل في وظيفتك وحدودك يعني لك التفوق.
مثل لاعب التنس الذي فاز بالبطولة لأول مرة، فذكر أنها المرة الـ17 التي يفوز فيها، وكان تفسيره لأنه فاز بها 16 مرة في خياله، هذه حالة صحية إذن لأنه تخيل في محيط وظيفته وقدراته.
الخيال قبل التنفيذ
حين تتخيل شيئًا قبل حدوثه يصبح تنفيذه أسهل، وكأنها محاكاة للواقع في عقلك، لذا يمكنك تخيل مشروع أو فكرة، أو حتى كتابة خيالاتك على الورق، فهذا سيساعدك على اكتشاف جوانب الفكرة كلها.
المهندسين والمؤلفين، ينفذون كل شيء في الخيال أولاً وعلى الورق أو البرامج، مما يسمى Simulation، فهناك وظائف كاملة قائمة على التخيل، لذا فكر في استغلال خيالك لصالحك.