من بديعة مصابني لكباريهات الهرم.. هذه حكاية المسرح الاستعراضي
صالة طعام مليئة بالطاولات المعدة بشكل أنيق يجوب في كل ناحية منها نادلون عيونهم متطلعة باهتمام إلى طلبات زبائنهم، ولكنها ليست بصالة طعام عادية؛ فالطاولات مهيئة لتطل على مسرح كبير تفتح ستائره لتسطع الأضواء وتبدأ وصلات من الغناء والرقص الاستعراضي والمونولوجات الكوميدية والاسكتشات المسرحية.
هكذا خلقت بديعة مصابني جوا مختلفا ومميزا لما أطلقت عليه اسم «كازينو بديعة».
مغتربون دخلوا عالم الفن من القاهرة
وجاء تأسيس الكازينو بميدان الأوبرا بعد أن قامت «بديعة» بأداء رقصة شرقية خاصة تحمل اسمها عام 1929، ليصبح بمثابة مدرسة فنية كاملة أطل منها الكثير من النجوم في بداية حياتهم الفنية، لتنال أسماءهم شهرة كبيرة لاحقا، فقد أضافت «بديعة» تطورات كبيرة عليه ليصبح مستواه أفضل كثيرا عن مستوى ملهى «رتيبة»، وإنصاف رشدي الذي سبقه في ذلك المجال.
وفوق خشبة مسرح الكازينو، تطل تحية كاريوكا برقصة شرقية مبدعة، تليها وصلة غنائية من تقديم الفنان فريد الأطرش، ثم فقرة راقصة ساحرة تجمع الحركات الراقصة الشرقية والغربية تطير بها سامية جمال فوق خشبة المسرح مثل الفراشة في تابلوه جماعي راقص، ليتبعها الفنان محمد فوزي بفقرة غنائية مبدعة.
وفي عام 1934، تم تصوير فيديو دعائي لكازينو بديعة يعرض في السينمات قبل الأفلام، وظهرت به «بديعة» مع فرقتها الاستعراضية.
مش كل شوية تدي سوكسيه.. 8 قواعد لحضور عرض المسرح
يكتب أنور وجدي مسرحيات ذات فصل واحد لفرقة بديعة مقابل 2 أو 3 جنيهات للواحدة، بينما يكتب أبو السعود الإبياري المونولوج الأول له «بوريه من الستات» ليقدمه المونولوجست سيد سليمان بكازينو بديعة، ويحقق نجاحا كبيرا يدفع «الإبياري» إلى كتابة أول رواياته «اوعى تتكلم» عام 1933 بينما يجلس في كازينو بديعة يدخن الشيشة.
تعتلي المسرح ثريا حلمي مقدمة مونولوج خفيف الظل يتجاوب معه الجمهور، ويرشح «الإبياري» الفنان إسماعيل يس ليتم تعيينه بفرقة بديعة كمونولوجست، وبالفعل يقدم «سمعة» فقرة ثابتة فوق خشبة مسرح الكازينو، ولا يتوقف تصفيق الجمهور له بعدها، لتكون بمثل شهادة ميلاد جديدة له ليدخل عالم الفن. وتتوج المسرح في نهاية اليوم «بديعة» ذاتها مع بعض الراقصات والفنانين مقدمين فقرة اسكتش مسرحي راقص يهيم بها الجمهور عشقا، ويطلق عليها لقب «ملكة المسارح».
يجلس بين زبائن الكازينو الملك فاروق وحاشيته وكبار الباشاوات، بجانب كبار الفنانين وعلى رأسهم الفنان نجيب الريحاني. أما عن إدارة الكازينو فهي من اختصاص أنطوان عيسى، ابن أخت «بديعة»، في المقام الأول. وبالنسبة للتدريب على الرقص وأداء الاستعراضات، فكانت مسؤولية المدرب إيزاك ديكسون.
وبعد أن ظل كازينو بديعة وحده يتربع عرش الكازينوهات الفنية طيلة سنوات عديدة، ظهر أمام «بديعة» عدد من المنافسين، على رأسهم «ببا عز الدين» التي انفصلت عن فرقة الأولى، لتنشيء كازينو شبيه بكازينو بديعة، ولكنه خاص بها وحدها.
كما انفصلت الراقصة حورية محمد عن كازينو بديعة كذلك بسبب غيرتها الشديدة من الراقصة تحية كاريوكا، وأسست كازينو خاص بها أدارته والدتها.
وفي بداية الخمسينيات، وبعد تراكم حجز الضرائب على ممتلكاتها، باعت بديعة الكازينو لببا عز الدين، لتغير اسمه إلى «كازينو شهر زاد»، وبعد فترة ليست بطويلة، باعته هي الأخرى إلى فتحية محمود، وبعد وفاتها، تولى إدارة الكازينو زوجها شوقي عبد المجيد.
لماذا اختفت الأعمال التاريخية من الدراما؟
ومتأثرٌ بمسرح بديعة الاستعراضي الذي تعلم بداخله، تبنى الفنان فريد الأطرش فكرة ظهور «التياترو الغنائي» في معظم أفلامه؛ أشهرها «عفريتة هانم» و«آخر كدبة». كما قدم الفكرة ذاتها بأفلامهم بعض الفنانين خريجي مدرسة «بديعة» أشهرهم محمد فوزي «في فيلم فاعل خير»، وأنور وجدي «في أفلام دهب وعنبر»، وإسماعيل يس في أفلام «المليونير» و«إسماعيل يس في البوليس حربي».
بدأ مستوى كازينو «بديعة» في الانخفاض في فترة السبعينيات أمام ظهور كازينوهات شارع الهرم، والتي أطلق عليها «ملاهي ليلية» أو «كباريهات»، واختلفت الفقرات المقدمة بداخلها؛ حيث لم يعد هناك مساحة متوفرة للتمثيل والاسكتشات المسرحية أو المونولوجات، واقتصرت عروضه فقط على فقرات الرقص والأغاني الشعبية.
ذلك بجانب انتشار الديسكوهات بداية من الفترة ذاتها، تحت تأثير من الثقافة الغربية؛ حيث يقوم الزبائن أنفسهم بالتفاعل مع الموسيقى المقدمة من خلال الرقص.
ولا يزال كازينو بديعة موجود حتى الآن، يتم تصوير بعض الأعمال الفنية بداخله، مثل فيلم بديعة مصابني من إنتاج عام 1975، ومشاهد من فيلم «البطل» من إنتاج عام 1997، ومشاهد من فيلم «غبي منه فيه» من إنتاج عام 2004، ومشاهد من فيلم «حين ميسرة» من إنتاج عام 2007، ومعظم أفلام سعد الصغير، ومسلسل «كاريوكا» من إنتاج عام 2012، وبعض الكليبات الغنائية أشهرها كليب الفنانة وردة «اللي ضاع من عمري» من إنتاج عام 2011.
ويعتبر مسلسل «أبو ضحكة جنان» من إنتاج عام 2009، أدق المسلسلات التي تناولت فكرة تبني بديعة مصابني للمسرح الاستعراضي، وتطويره على مدى مراحل مختلفة بداخل الكازينو الخاص بها، لكي يظل «كازينو بديعة» صامدا بقوة أمام منافسيها المختلفين.