المعتزلة بين التاريخ والحاضر.. محاولة للفهم
«أما لهذا الدين من يناظر عنه؟» تساؤل طرحه هارون الرشيد حين اشتدت الأسئلة المتعلقة بالإله والخلق والوجود دون مجيب من العلماء المسلمين، حتى نصحه بعض رجاله بطرح الأسئلة على المعتزلة المشتغلين بعلم الكلام العقلي -وكانوا آنذاك محبوسين في سجون الدولة-، وبالفعل وجد لديهم إجابات على السائلين من الكهنة غير المسلمين الذين رددوا قبلها «الإسلام دين هش ضعيف لا يصمد أمام المناظرات».
النشأة والتسمية
اختلفت نشأة المعتزلة عن جميع التيارات الفكرية الإسلامية، التي أنتجتها الأحداث السياسية والخلاف على السلطة في ذلك الوقت، فانفرد المعتزلة بالابتداء من منطلقات «فكرية» بعيدة عن أمور الدولة وشؤون الحكم، واستمروا كذلك حينًا حتى انخرط بعضهم في بوتقة السياسة بعد بضع سنين.
في الثلث الأخير من الحقبة الأموية بمجلس الحسن البصري كان الحديث عن حكم مرتكب الكبيرة، المسألة التي شغلت الناس في ذلك الوقت؛ اختلف واصل بن عطاء، وعمر بن عبيد، مع ما أقره شيخ المجلس وتغيبا عنه، ليقول البصري قولته الشهيرة «اعتزلنا واصل» ومن هنا جاءت تسميتهم بالمعتزلة على أغلب الآراء.
يرى آخرون أن اسم المعتزلة جاء نتيجة اعتزالهم لما سمي بالفتنة الكبرى بين آل البيت والأمويين، فيما يقول البعض إنها تعود إلى اعتزال الباطل والآراء الفاسدة، أو لأنهم جعلوا مرتكب الكبيرة معتزلا عن فريقي الإيمان والكفر.
لكن يبقى هذا الاسم المشهور مفروضا عليهم لم يختره أيا منهم وإن قبلوه، فأطلقوا على أنفسهم «أهل العدل والتوحيد» اقتباسا من أصول المذهب وأعمدته التي تكونت مع التطور المرحلي لحركتهم.
يقول أحد أبناء المعتزلة المعاصرة، الدكتور معتز شطا، إن قصة الحسن البصري مع واصل بن عطاء لا تثبت لديهم إذ لم يروها سوى الشهرستاني في كتاب «الملل والنِّحل» ولم يذكر إسنادًا واحدًا لها، متسائلا «كيف تثبت واقعة تاريخية بدون وجود أسانيد موثّقة لها؟».
وأضاف، أن الثابت لديهم هو أن البصري كان من العلماء القائلين بالتوحيد والعدل وهما الأصلان الأولان عند المعتزلة، ولم يكن هناك أي خلاف بين واصل وبينه حول هذين الأصلين، موضحا أن الخلاف الوارد يتعلق فقط بتسمية مرتكب الكبيرة، حيث سماه الحسن البصري منافقًا، بينما سماه واصل بن عطاء فاسقًا، وفيما سوى هذه النقطة لا يوجد خلاف كبير، والحسن معدود ضمن الطبقة الثالثة من طبقات المعتزلة، بينما واصل معدود ضمن الطبقة الرابعة، مستندا إلى ما ذكره القاضي عبد الجبار بن أحمد، في كتاب طبقات المعتزلة.
أصول المذهب
يعتمد فكر المدرسة الاعتزالية على خمسة أصول، اتفق عليها الجميع في العموم والكليات، واختلفوا في التفاصيل والجزئيات كثيرا، نتيجة النزعة العقلية التي غلبت عليهم وقد خطها القاضي عبدالجبار على هذا الترتيب.
يتقدمها «التوحيد» ويعني تنزيه الذات الإلهية عن أي تشبيه، ورفض الأوصاف التي تنطبق على الأجسام، ثانيها «العدل» وهو أن الله لا يخلق الشر وأيضا يتعلق بالقدَر وذهبوا فيه إلى أن الإنسان حر في تصرفاته وهو صانع فعله والمسؤول عن سلوكه.
الأصل الثالث هو «المنزلة بين المنزلتين» وهذا ما حدث في واقعة النشأة حيث قالوا إن مرتكب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، هو في منزلة بين المنزلتين، إن تاب عاد إلى إيمانه وإن مات على فسقه خُلد في النار.
يأتي بعده «الوعد والوعيد» وهو أن الله لا يقبل الشفاعة في أهل الكبائر ويحقق وعيده فيهم بالخلود في النار، أما الأصل الخامس وهو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» باللسان واليد فيما يتعلق بالخروج على الحكام الظالمين في حالة القدرة وإزالة منكرهم.
عقلانية المعتزلة
وأرجع تقديمهم للعقل قبل النص إلى أن العقل هو الفاهم والنص هو المفهوم، مضيفا أن الفاهم فاعل والمفهوم مفعول، ولا يوجد قراءة للنص بدون إطار عقلاني مهما اختلف هذا الإطار. وأكد أن التفكير من أفضل العبادات عند المعتزلة، كما أن العقل هو الطريق لمعرفة الله، وفيما يخص الإيمان بالغيبيات والسمعيات يرى أنها مفيدة من أجل التفاصيل في العبادات وتأكيد على ما يكشفه العقل، فمثلا نثبت حتمية وجود عالم آخر فيه الثواب والعقاب إثباتا عقليا ثم يأتي النقل ليؤكد ذلك، فالعقل هنا كاشف والنقل مؤكد لما كشف عنه.
بينما يقول عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الدكتور محمد عمارة، إن المعتزلة يعتبرون العقل دليلا شرعيا كالقرآن والسنة، وتقديم العقل عندهم للترتيب لا للتشريف حيث إنه الوسيلة لفهم النقل ولا يمكن النظر في القياس ولا اعتبار الإجماع حجة إلا بالعقل، مضيفا أن المعتزلة منهج مختلف في فهم القرآن الذي يعلو فيه مقام العقل عما سواه من الكتب، فهم يعملون العقل في مقاصد النص.
وفي نقد المعتزلة يرى رئيس جمعية مصر للثقافة والحوار الدكتور محمد سليم العوا، أن ما عليه المعتزلة هي مزاجية في الآراء لا عقلانية، فيقول «للمعتزلة آراء بقدر ما في المعتزلة من علماء»، ما يعتبره أمرا فوضويا بسبب عدم التزامهم بالإطار النقلي.
يرد الكاتب المعتزلي ناجح سلهب، قائلا «إن الحرية الفكرية عند المعتزلة تظهر هذا التنوع، وهذا التنوع بالذات يتعلق بالموضوعات الميتافيزيقية، وهو إبداع واستكناه عقلي في حقل يستدعي هذه الألوان، أما أن رجعنا إلى الواقع المادي ظهرت النزعة الواقعية المادية في فكرنا».
في حين أننا اليوم وفي القرن الواحد والعشرين مازال كثير من المسلمين يتناظرون حول فوائد بول البعير ووجوب اللحية من عدمه وحلّ الموسيقى من حرمتها.
يضيف «نحن من سبقنا الغزالي وديكارت في الشك المنهجي، ولافوازييه في القول بحفظ المادة، وسبقنا بقرون في معرفة الغلاف الغازي والضغط الجوي، وقلنا بالعقد الاجتماعي قبل جان جاك روسو، ومن يرجع إلى كتاب الحيوان للجاحظ يعرف كل ذلك».
تأثيرهم على الجمهور
عن تأثير المعتزلة على جمهور المسلمين والتيارات الأخرى يقول العوا: «إن مدرسة المعتزلة لم تكن أول من استعمل العقل في الفكر الإسلامي فالقرآن قد رفع شأن العقل قبل ظهور المعتزلة، إلا أنهم لجأوا إليه باعتباره أساسيا في فهم مدركات الحكم الشرعي والنظر في الأدلة، بالإضافة إلى تشجيعهم حركة الترجمة خلال الحكم العباسي، والانفتاح على مختلف الثقافات ونقل الفلسفات الأخرى إلى بلاد العرب، بالإضافة إلى إشاعتهم فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطويرها إلى حد جعلها من الأصول».
ولما تُرجمت الفلسفات اليونانية والهندية خرج بعض الناس من الإسلام إعجابا بآراء أرسطو وأفلاطون، فتولى المعتزلة الرد عليهم بموجب الحجج العقلية الإسلامية بالإضافة إلى المعرفة الفلسفية.
أين المعتزلة الآن؟
كما يرى أن الشعوب العربية ليست بالنضج الكافي لتعرف مصلحتها، ولذلك لن تساند المعتزلة التي تظل ضعيفة الصوت في ظل هذا الظرف البائس، مضيفا «لو كان هناك إخلاص لمساندة المعتزلة فسوف ننهض كالمجتمعات الأوربية».
للمعتزلة صفحة على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» تحت اسم أهل العدل والتوحيد، وأيضا مجموعة بنفس الاسم يكتب فيها حاملو المذهب وغيرهم من المخالفين ابتداء من السلفيين حتى اللادينيين، ويتم فيها مناظرات بين معتنقي الأفكار المختلفة، بالإضافة إلى المنتديات والمدونات على شبكة الانترنت.
المعتزلة والآخر
وعن اتفاقهم مع مذهب الزيدية قال «يجب أن لا نخلط بين الزيدية الأوائل والزيدية اليوم، كان هناك تقارب فكري بيننا لكن زيدية اليوم أبعد ما يكون عن تراثهم العقلاني، فلا يوجد نشاط علمي عندهم الآن حتى أن مخطوطات علماء الزيدية بالمئات لا تجد من يحققها، مع أن عددهم يزيد عن ستة ملايين، والأكثر إيلاما هو انتظار المستشرقين ليقوموا بتحقيق تراث هؤلاء، ناهيك أن علم الكلام لا يتم تدريسه عندهم منذ زمن فالساسة عندهم أيضًا يريدون قطيعا خانعا لا يفكر، زد على أن التقارب الحوثي الشيعي فتح مجالا ليدخل التشيع الإمامي عليهم وأمور كثيرة جدا».
يرى عمارة أن عقلانية المعتزلة تخللت في كثير من تيارات الفكر الأخرى فأثرت في مجددي الأشاعرة كأبي حامد الغزالي والإسفراييني وأبي المعالي الجويني، حتى أنها أثرت في المدرسة السلفية كما عند ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل»، يعلق سلهب قائلا «بعض شيوخ الأشاعرة وليس كلهم كالفخر الرازي مثلا والطاهر بن عاشور ومحمد عبده ولكن التأثر محدود».
المعتزلة والسلفية
الخلاف بين المعتزلة والحنابلة فيما سمي بمحنة «خلق القرآن» والذي امتد أثره في الخصومة إلى الآن حتى جعله شيوخ السلفية المعاصرة حديثهم على المنابر وفي الفضائيات، يبقى حديث جدل ويتبادر إلى الذهن بمجرد ذكر كلمة «المعتزلة».
المحنة تتعلق بالخلاف الفكري الذي حدث بين المعتزلة وأحمد بن حنبل حول القرآن، حيث قال المتكلمون منهم إن القرآن مخلوق ورد الأخير أنه ليس مخلوق وإنما هو كلام الله، ودخلوا في جدالات كلامية واسعة نتج عنها الإلقاء به في السجن.
هناك نقطة مهمة لأفترض أن المعتزلة في ذلك السياق التاريخي لهم إصبع في امتحان الحنابلة وأسلم جدلا، ولكن المعتزلة والمأمون دشنوا عصور الإسلام الذهبية وشيدوا بيت الحكمة، لكن الحنابلة والمتوكل أعلنوا تحريم التفكير الحر والفلسفة وأدخلوا العالم الاسلامي في عصور الظلام.
وعن موقف جمهور المعتزلة ممن أيدوا الدولة العباسية في التنكيل بالخصوم، أكد أنهم ضد توريث الحكم والافتئات على الشورى، والعباسيين ليس على رؤوسهم ريشة، مضيفا أن توجه مشايخ المعتزلة وقتها كان العزوف عن المشاركة في مثل هذه الأنظمة الحاكمة وما زال ذلك هو التوجه العام، مع عدم إنكار أن ابن أبي دؤاد وهو ممن أيدوا الدولة العباسية كان منتميا إلى أفكارهم.
جعفر بن مبشر الثقفي أحد أئمة المعتزلة في ذلك الوقت، ممن رفضوا التعاون مع الدولة وولاية القضاء فيها واستنكر قبول هداياها، بل ورفض أن يستقبل الوزير المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد. وفيما يتعلق بالتكفير أفاد أن المعتزلة اليوم تتبع المدرسة التي تعذر المتأولة ولا تكفر المخالفين من الحنابلة في قضية خلق القرآن ولا في قضية تشبيه الذات الإلهية.
المعتزلة والفقه
المذهب يبحث في علم الكلام والعقائد فلا يشتغل رجاله بعلم الفقه كونه بعيدا عن قضاياه الأصلية، ما جعلنا نسأل عن المذاهب الفقهية التي يعتنقها أبناء مدرسة المعتزلة.
يقول الدكتور معتز شطا، «إن شيخ المعتزلة المعاصرة، أبا ياسر أمين نايف، كان حنفيًا في الفروع، أما معظم المعتزلة المعاصرين الذين أعرفهم فهم بين حنفي في الفروع وبين عدم التمذهب بمذهب فقهي معين»، مشيرا إلى أنه يميل إلى المذهب الشافعي في الجملة.
وأضاف، «سواء كنا أحناف أو شافعية فليس معنى ذلك أننا نتقيد تمامًا بهذه الفروع كما يفعل مذهبيو هذه المذاهب، ولكن معنى ذلك أن هذه المذاهب تمثل إطار عمل واسع لنا، غير أننا قد نخالفها في فروع أو أصول، فمثلًا الشافعي رحمه الله يقول بنسخ الكتاب بالكتاب، في حين أنني آخذ في هذه المسألة بقول أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المعتزلي في عدم وقوع النسخ في الكتاب أساسًا».
الدنيا دار حكمة، ننظر إلى الدنيا نظرة تقدير لا نظرة دونية كما يعتبر البعض أنها لا تستحق أي التفات، ومن ثم فالمعتزلة تركز على ثقافة الحياة مقابل ثقافة الموت عند مذاهب أخرى.
مصر تكشف حقيقة المعتزلة
خصوم المعتزلة نسبوا إليهم كثيرا من الأشياء التي لا يقولون بها، ولم تنكشف الحقيقة إلا بعد الرحلة المصرية التي خرجت من جامعة الدول العربية إلى اليمن في الأربعينيات، رجعت البعثة بآلاف المخطوطات المعتزلية التي كانت في مكتبة الجامع الكبير ومكتبة الأوقاف ومنها ما قيل إنه كان مدفونا في جدران البيوت اليمنية.
كان أول ما تم تحقيقه على يد المصريين كتاب «المغني» وكتاب المختصر في أصول الدين من رسائل العدل والتوحيد والذي حققه الدكتور محمد عمارة، وكتاب شرح الأصول الخمسة الذي حققه الدكتور عبدالكريم عثمان، وكتاب فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة الذي حققه الدكتور فؤاد سيد، فيما حقق الدكتور محمّد عبدالهادي أبو ريدة كتاب «ديوان الأصول في التوحيد».
ومما طبع في مصر أيضا «أساس البلاغة» في اللّغة و«أطواق الذهب في المواعظ والخطب» و«عجب العجاب في شرح لامية العرب» و«تنزيه القرآن عن المطاعن» وكتاب «متشابه القرآن» و«المجموع المحيط بالتكليف له».
هذا الموضوع ضمن سلسلة قصص تحكي تاريخ وحاضر المدارس والتيارات الفكرية الإسلامية.