صلاح أبو سيف.. سينما الواقعية والرمزية والمرأة
«كيف تكون ممثلا سينمائيا؟».. كتاب من تأليف شفيق حنين يصل إلى أيدي الشاب الصغير صلاح أبو سيف، المحب لمشاهدة الأفلام، ليكون أول كتاب يقرأه عن السينما ويتعرف من خلاله على شخص يدعى «المخرج» ويدرك أنه يقوم بالدور الأهم في عملية صناعة فيلم سينمائي، فيتابع أخبار السينما في المجلات الفنية بشغف، ثم يعمل بالصحافة الفنية ويدرس فروع السينما المتنوعة والموسيقى وعلم النفس.
هكذا بدأت علاقة المخرج المبدع صلاح أبو سيف بالسينما إلى أن التقى بالمخرج نيازي مصطفى عن طريق الصدفة ليعجب الأخير بشغفه السينمائي، ويساعده حتى يعمل مونتيرا باستوديو مصر، فيتحول أبو سيف من هاو للسينما ودارس لها إلى عامل بها بالفعل.
الحدوتة
باعتباره تلميذا للمخرج كمال سليم؛ حيث عمل معه كمخرج مساعد في أول فيلم واقعي بالسينما المصرية «العزيمة» من إنتاج عام 1939، تأثر صلاح أبو سيف به كثيرا، بجانب تأثره بالسينما السوفيتية، والتيار الواقعي الجديد في السينما الإيطالية، ليصبح صانعا حقيقيا لخط الواقعية بالسينما المصرية؛ فجميع أفلامه تناقش قصص شعبية من داخل الحارات والشوارع المصرية، ألهمته منذ نشأته في حي بولاق بالقاهرة، ليتميز بها عن مخرجي جيله من خلال 41 فيلما سينمائيا قدمهم على مدى 50 عاما.
منها «تتجوزيني يا بسكوتة؟».. حكايات من مسرح فؤاد المهندس
أبو سيف مؤلفا
يحتل الإعداد للفيلم المرحلة الأهم في قاموس أبو سيف السينمائي، وذلك لاهتمامه بعنصر الصدق عند نقل الحكايات الشعبية من بيئتها العادية بالشارع لتصبح صورة سينمائية أمام الكاميرا، تملأها التفاصيل الحيوية التي تؤهلها لتوصف بـ«الواقعية»، الأمر الذي جعله يستغرق عاما كاملا لكي يلم بكل تفاصيل حكاية احتكار السوق لمناقشتها في فيلمه «الفتوة» من إنتاج عام 1957.
وبجانب الدراسة والتحضير والاهتمام بأدق التفاصيل، يأتي السيناريو كأهم عنصر من عناصر الإعداد لفيلم ينوي أبو سيف أن يخرجه، فهو الذي آمن بأن أساس أي فيلم سينمائي جيد هو وجود سيناريو متقن الصنع، الأمر الذي جعله يشترك في كتابة سيناريوهات جميع أفلامه السينمائية، والتي كان بعضها ما هو إلا انعكاس لتجربة شخصية مر بها أبو سيف، فصور محاولة صاحبة المسكن الذي كان يقطنه إغوائه عندما انتقل من بولاق إلى باريس لدراسة السينما، من خلال فيلم «شباب امرأة» من إنتاج عام 1956، وحين تعطل به وزوجته الأسانسير، ألهمه الموقف كي يظهر تلك القصة بداخل فيلم، فلجأ إلى أمير الرواية العربية «نجيب محفوظ» لكي يعرض عليه الفكرة، ويكتب له بالفعل الأخير قصة فيلم «بين السما والأرض» من إنتاج عام 1960.
المرأة بصفة عامة.. والأم على وجه الخصوص
بناء على تأثره بوالدته على نحو شخصي، أصبحت الأم بالنسبة إلى «أبو سيف» لها مكانة مقدسة بكل المقاييس، تكاد تصل إلى المساواة بالملاك، فهي قوية وصبورة وحنونة، ما يؤهلها لكي تصبح بجدارة العنصر الأهم بداخل الأسرة، وهو ما يظهر في معظم أفلامه، وأبرزها شخصية أمينة رزق في فيلميه «بداية ونهاية» من إنتاج عام 1960، و«المجرم» من إنتاج عام 1978، وشخصية فردوس محمد في فيلميه «هذا هو الحب» و«شباب امرأة»، وشخصية ماري منيب في فيلمه «رسالة من امرأة مجهولة».
ودفعه حبه لتصوير عظمة الأم بداخل أفلامه السينمائية إلى الاهتمام بشخصية المرأة بصفة عامة، وما تتعرض له من قهر وتسلط، ومعاناتها لكي تجعل المجتمع يعترف بأهميتها بداخله، وهو ما اتضح في أفلامه «أنا حرة» من إنتاج عام 1959، و«الزوجة الثانية» من إنتاج عام 1976، و«الطريق المسدود» من إنتاج عام 1957، و«رسالة من امرأة مجهولة» من إنتاج عام 1962، و«وسقطت في بحر العسل» من إنتاج عام 1977.
عاطف الطيب.. سينما واقعية متمردة على القيود
أسلوبه الإخراجي
وفي مدرسة «أبو سيف» الإخراجية، كانت هناك 5 عناصر أساسية استعان بها في جميع أفلامه السينمائية:
1- الرمزية
لم يخلو أي فيلم لـ«أبو سيف» من عنصر الرمزية، والتي كانت صريحة مباشرة غير متفلسفة في أغلب الأحيان يتم التركيز عليها أمام الكاميرا، بينما كانت حاضرة في خلفية الأحداث الرئيسية بالكادرات السينمائية في أحيان أخرى، ما جعله يستحق لقب «أستاذ الرمزية في السينما المصرية».
ففي فيلم «القاهرة 30» من إنتاج عام 1966، يظهر «محجوب عبد الدايم»، أو الفنان «حمدي أحمد»، جالسا ومعلق خلفه على الحائط ديكور قرنين جعله يبدو كالأحمق، ما يعكس أنه صار قوادا، في كادر يعتبر من أشهر مشاهد «أبو سيف» السينمائية التي ظهرت فيها الرمزية المباشرة.
ومرة أخرى تظهر الرمزية المباشرة في الفيلم ذاته في مشهد لصورة أحمد مظهر بجوار :«إحسان» و«محجوب»، ليبدو كأنه يراقب ما يحدث بالرغم من غيابه.
ذلك بجانب براد الشاي الذي تغلي الماء بداخله لترمز إلى حالة الغليان التي يعيشها المجرمون في المشهد الذي ينتهي ببقرة يتم ذبحها لترمز إلى قتل الضحية، وذلك ضمن أحداث فيلم «ريا وسكينة» من إنتاج عام 1952.
وفي مشهد موت المعلم أبو زيد، والذي يجسده الفنان زكي رستم، بفيلم «الفتوة»، تتأرجح صورته المعلقة على الحائط، وتسقط لوحة «محلات أبو زيد» على الأرض لحظة وفاته.
وفي فيلم «الأسطى حسن»، من إنتاج عام 1952، يقف فريد شوقي وهدى سلطان أمام باب مفتوح لخزانة حفظ طعام خشبية لا تحتوي إلا على قطعة جبنة متعفنة، بينما تقف زوزو ماضي ومعها رشدي أباظة أمام باب مفتوح لثلاثجة مليئة بكل أصناف الطعام، ما يرمز إلى مدى التفاوت بين الطبقتين الفقيرة والثرية.
أما في فيلم «شباب امرأة»، تظهر امرأة تسحب شاة أمام الكاميرا في الوقت الذي تجبر فيه «شفاعات»، والتي تجسدها الفنانة تحية كاريوكا، «إمام» أو «شكري سرحان» على الزواج منها، ثم تظهر «شفاعات» في خلفية الكادر وهي تسحب «إمام» للمشي معها، تماما مثل الشاة.
وكذلك، استخدم رائد الواقعية «القطة» في فيلم «لوعة الحب»، من إنتاج عام 1960، لترمز إلى الزوجة التي تعاني من تسلط زوجها وقسوة معاملته معها.
أما الرمزية غير المباشرة، فتتجلى في الكتابات المختلفة على الحوائط واللوحات بداخل كاردات «أبو سيف» السينمائية، والتي تعكس حالات مختلفة تمر بها الشخصيات أو المصير الذي ستؤول إليه، وأبرزها في أفلام «الزوجة الثانية» و«بداية ونهاية» و«شباب امرأة».
كما أن هناك رموز جديدة اخترعها رائد الواقعية للتعبير عن أشياء معينة، فعبر عن ارتكاب فعل الدعارة ببالوعة بمجاري ضمن أحداث فيلمه «بداية ونهاية».
2- مشاهد خالية القطع
لأنه بدأ العمل في بداية حياته المهنية كمونتير في ستوديو مصر، وبرع فيه حتى أصبح رئيسا لقسم المونتاج بالاستوديو لمدة 10 سنوات، ذاق «أبو سيف» معاناة المونتاج اللازمة لإخراج الفيلم في أفضل صورة ممكنة، وهو ما جعله يجري مونتاج بداخل رأسه لأي مشهد يقوم بإخراجه، فتكون النتيجة مشهد مصور جاهز لإجراء عملية المونتاج بكل سهولة. وتظهر عبقرية رائد الواقعية في الإخراج وفقا لتلك الرؤية من خلال استخدامه لمشاهد طويلة خالية القطع تتنوع بها أحجام اللقطات وتتغير أبعاد الممثلين بداخلها دون تدخل من المونتاج.
3- الشارع بداخل الاستوديو
ولأنه يلتزم بالصدق في تصوير الحكايات الشعبية أمام الكاميرا، اهتم المخرج المبدع بنقل الصور السينمائية من بيئتها الأصلية إلى داخل الاستوديو في أغلب أفلامه، مراعيا أدق التفاصيل، ولذلك لكي تظهر واقعية بشكل كامل، فصور السوق باحترافية في فيلم «الفتوة»، والأحياء الشعبية في فيلم «شباب امرأة»، بجانب فيلمي «هذا هو الحب» من إنتاج عام 1958، و«السقا مات» من إنتاج عام 1977، ومنازل عمال السكة الحديد في فيلم «لوعة الحب».
وكذلك يعد أستاذ الرمزية من المخرجين القلائل الذين اهتموا بتناول حكايات الحمامات الشعبية أمام الكاميرا؛ فظهر ذلك في أفلامه «لك يوم يا ظالم» من إنتاج عام 1951، و«المجرم»، وفيلم «حمام الملاطيلي» من إنتاج عام 1973.
كما أنه لجأ إلى التصوير الخارجي في بعض أفلامه، ما أظهر عبقريته في إدارة الكاميرا في قلب الشارع المصري، وكان «الزوجة الثانية» أشهر هذه الأفلام؛ حيث صورت أغلب مشاهده بداخل قرية بالقليوبية.
4- اللقطات البعيدة
ولم يهتم «أبو سيف» بالتقاط اللقطات القريبة بقدر اهتمامه بتصوير لقطات بعيدة ومتوسطة تظهر بها الحركات الجسدية المختلفة والطبيعية للممثلين. كما أنه من خلال استخدام تلك اللقطات، تمكن من تنويع أحجام وزوايا المشاهد التي يتم تصويرها دون الاعتماد على المونتاج بشكل كبير، الأمر الذي تميز به عن غيره من مخرجي جيله.
5- الأمل
حرص صانع الواقعية على انتصار الأمل في نهاية جميع أفلامه، ما جعله يصر على تغيير بعض نهايات الأفلام التي أخرجها لتصبح مختلفة عن تلك الحاضرة في الرواية الأصلية. وأبرز تلك الأفلام هو «السقا مات» التي أصبحت نهايته بها شئ من التفاؤل، بخلاف تلك التي كتبها الروائي «يوسف السباعي» في روايته، وذلك بمساعدة كاتب السيناريو والحوار للفيلم «محسن زايد».
محطات هامة:
«الواقعية» هي العنصر الأساسي في أغلب أفلام المخرج المبدع، ولكنه أيضا أقدم على إخراج بعض الأفلام الأخرى التي يغلب عليها وصف آخر غير الواقعية، ما أثبت قدرته على صنع أفلام متنوعة خارج الإطار الذي اعتاد على تقديمه أمام الكاميرا، وظهر ذلك في ثلاثة محطات هامة من أعماله السينمائية:
- الرومانسية:
صور أبو سيف حالة الرومانسية في عدة أفلام، أهمها: «هذا هو الحب» و«لوعة الحب» و«رسالة من امرأة مجهولة»، و«شئ من العذاب» (من إنتاج عام 1969)، و«وسقطت في بحر العسل»، ولكن يظل فيلم «الوسادة الخالية»، من إنتاج عام 1957، هو أرقى الأفلام الرومانسية التي صورت مشكلة حقيقية يمر بها ملايين الناس وهي «الحب الأول».
- الأفلام التاريخية
كما قام أبو سيف بتجربة إخراج الأفلام التاريخية من خلال أفلام «فجر الإسلام» من إنتاج عام 1971، و«القادسية» من إنتاج عام 1981.
- الفنتازيا الكوميدية
وفي مرحلة متطورة لتجربة أبو سيف في الإخراج، قام بصنع فيلم البداية، من إنتاج عام 1986، والذي ينتمي تحت تصنيف الفانتازيا الكوميدية.
مغامرة سينمائية
ووفقا لرؤيته الإخراجية، غامر أبو سيف بتقديم الفنانة «فاتن حمامة» في دور شر بالرغم من ملامحها الملائكية، ليلقى فيلم «لا أنام»، من إنتاج عام 1957، نجاحا باهرا، ويصبح الفيلم الوحيد الذي أطلت فيه سيدة الشاشة العربية في من خلال أدائها لشخصية تغلب عليها طباع الشر.
دويتوهات فنية
كوّن أبو سيف دويتوهات فنية مع كبار الكتاب، ليشتركا سويا في صنع أفلام أصبح معظمها من أهم ما أنتجت السينما المصرية:
- أبو سيف ومحفوظ
منذ بداية تعارفهما عام 1945، كان صلاح أبو سيف المشجع المخلص لنجيب محفوظ لكي يبدأ كتابة سيناريوهات سينمائية، فكتب «محفوظ» سيناريو ثاني وثالث أفلام «أبو سيف»: «المنتقم» من إنتاج عام 1947 و«مغامرات عنتر وعبلة» من إنتاج عام 1948، والذي رفض أن يأخذ أجر عمله به اعترافا بفضل صانع الواقعية عليه في تعليمه كتابة السيناريو، لتكون تلك بداية تعاون سينمائي بين هذا الثنائي، ويستعين «أبو سيف» ببعض القصص التي كتبها «محفوظ»، ويحولها لأفلام سينمائية مثل: «ريا وسكينة»، و«الوحش» (من إنتاج عام 1954)، و«بداية ونهاية» و«القاهرة 30»، وليكتب «محفوظ» سيناريوهات أفلام «لك يوم يا ظالم» و«الفتوة» و«ريا وسكينة» و«الوحش» و«بين السما والأرض» و«أنا حرة»، و«مجرم في إجازة» (من إنتاج عام 1958)، و«المجرم»، ويخرجها أبو سيف.
- أبو سيف وإحسان عبد القدوس
كما حول المخرج المبدع روايات كتبها «إحسان عبد القدوس» إلى أفلام سينمائية في «الطريق المسدود» و«الوسادة الخالية» و«لا أنام» و«أنا حرة» و«3 نساء» (من إنتاج عام 1968)، و«وسقطت في بحر العسل».
- أبو سيف والسيد بدير
وكتب السيد البدير السيناريو والحوار لستة أفلام أخرجها صلاح أبو سيف، وهم «دايما في قلبي» (من إنتاج عام 1946)، و«الأسطى حسن»، و«الوسادة الخالية»، و«لا أنام»، و«بين السما والأرض»، و«رسالة من امرأة مجهولة».
كما كتب الحوار فقط لأربعة أفلام قام أبو سيف بإخراجها، وهم: «المنتقم» و«ريا وسكينة» و«شباب امرأة» و«الطريق المسدود».
صلاح أبو سيف مخرج مصري من مواليد حي بولاق بالقاهرة عام 1915، وهو صانع مدرسة الواقعية في السينما المصرية، التي قدم لها 41 فيلما جعلته أحد أهم المخرجين بشكل عام.