رانيا يوسف تكتب: عزيزي باسم.. أنا الآن سعيدة
عزيزي باسم
اكتب إليك تلك الرسالة وأنا لم انتهي بعد من قراءة كتابك فربما أخشى أن ينتهي معه شغفي بالكتابة إليك.
اسمحلي أن اطلعك علي جزء صغير من حالة الفوضي الذي اوقعتني فيها كلماتك دون سابق موعد. انتظر يا عزيزي فالفوضي سبب أصيل لسعادتنا وليست كما يفكر الآخرون أنها سبب ضياعنا، فالانسان الذي لم يذوق طعم فوضي حواسه هو روح ميته تعيش في جسد حي، أعرف أن كثيرين طاروا فرحاً من مقاعدهم ومنهم من أسكرتهم حكاياتك إلى سلمي" تلك الأنثي التي أخرجت الجنة من قلب كل أدم"، ومنهم من أثني على تهذيب الحروف وهناك من تغزل بعظيم النظريات الأدبية الذي طبق قواعدها في وصف كتابك..
دعك من هذا فأنا لا اؤمن بنظريات النقد الديناميكية التي تتساوي مع تطبيق الغسيل، فالحكايات نستقبلها بقلوبنا لا بعقولنا، حقاً هم أغبياء، أصحاب العقول محرومون دوماً من متعة الاستسلام الكامل للنص، لا تضجر يا عزيزي ولا تحسبه هجوماً مني على شكل الكتابة، ولا تتهمني أن تمردي على التنظير الكلاسيكي للنص شك حول روايتك.. أنا فقط اكره تربص الناقد للنص، فأعظم الكتابات ليست أجودها بلاغة، بل تلك التي تأكل جروحنا.
عزيزي باسم.. أشهد بك أن الوحدة جزء أصيل من قدر هذا الجيل، فشبابه أصابهم الذبول مبكراً وأوقعتهم خيبات الأمل المتتالية فريسة لحالات الوحدة والأنعزال، الوحدة كانت في الماضي القريب اختيار، أو كما وصفتها أنت "مزاج الأنبياء"، وأضيف لك، الطيبون والشعراء وصانعي البهجة، اليوم اصبحت الوحدة إجبار لا منقذ منه.
الوحيدون غرباء، فعندما يطلون برؤسهم من وحدتهم إلى العالم يشعرون بالضجر، يشبهون الأطفال حديثي الولادة عندما يخرجون من بطون أمهاتهم ويرون العالم لأول مرة، عيونهم تصدم من شدة الضوء، يرتبكون، ينزعجون من الضوضاء، فيبكون من الخوف الذي يجتاحهم، نعم ذلك الخوف يا عزيزي الذي يرافقهم من الولادة حتي الموت، أما نحن فنعبر عن خوفنا بمزيد من الصمت، ومزيد من الكتابة.
أتعلم ان فيرونيكا عندما قررت الانسحاب من هذا الضجيج، وضعها باولوا في مصحة للأمراض العقلية، وجدت نفسها سجينة عقلية، بعد أن فقدت طريقها للحرية والخلاص.. تري هل كان هذا مصير فيرجينيا لو خذلها البحر ذلك اليوم؟
تعرف شيئاً، اعتقد أن فيرجينيا انتحرت لأنها لم تؤمن بقضية تعيش من أجلها.. أصحاب القضايا وحدهم يخدعهم شبح الأمل. تذكر عندما كنا نمتلك الكثير من هذا الأمل وقتها وقفنا جنباً إلى جنب في مواجهة حشود عساكر الأمن المركزي في المسيرة الطويلة من جامع مصطفي محمود حتي ميدان التحرير، في الحقيقة لم نكن وقتها نقاوم الفاسدين وحدهم، بل قاومنا احساسنا بالضعف والعجز والفشل.
لم نهزم انظمة بل هزمنا مشاعر اليأس والانكسار داخلنا، تذكر وقتها كيف تلاشت مشاعر الوحدة، وكيف عادت بعد أن ترك كل منا حلمه على رصيف الميدان، جميعنا مجانين بطريقة أو بأخرى، وجميعنا وحيدون بحلم أو بأخر.
عزيزي باسم، انتهت عذابات وحدتك بالافصاح عنها في هذة الروايات، وربما بدأت عذابات أخرى، أما نحن فلم يتبقي لنا شيئاً نحكيه عن الوحدة، هذة الرواية أكلت كل حروف اللغة.
عزيزي باسم..
اكتب إليك رسالتي الثانية مستعينة على حزنك لفراق أصدقائك، بما تركوه لنا من إرث كبير، وما تركوه لك من ذكريات، فيا عزيزي الفراق سُنة المحبين، فلا تحزن كثيراً، الزمن وحده يهدي إلينا ما شاء من أصدقاء، فالموت لا يأخذ، قدر ما تأخذ منا الحياة، وتذكر جيداً أن هناك كثيرون عاشوا أعماراً طويلة فقراء إلى صديق.
عزيزي باسم.. لماذا تتجاهل كل هذا الإرث من اللغة والذكريات، وتغرق في النحيب على من سبقونا إلى الجنة؟ اعلم أن الغياب وشم عتيق على جدران القلوب، لكني اؤمن أن السعادة اختيار الأحرار، ولكن انتظر، فالحزن أيضاً من شيم الأدباء. نسيت، اننا في الحزن أقوي على الكتابة منه في السعادة، حتى الكتابة تباغتنا بلعنة الحزن.
أختلف معك في القرار.. الكتابة لا تغير العالم. ما همك بالعالم والعالم كله مختزل في "سلمي وأنت وحلم"؟ يا عزيزي دعني أروي لك قصة فتاة تغير عالمها مرات ومرات بسبب بعض السطور، وبسبب أحد الأفلام، تري هنا السينما أيضاً تغير أقدارنا وتصححها وتعرفنا على أنفسنا التي لا نعرفها حقاً، فهذه الفتاة وجدت خلاصها في فيلماً تسجيلياً كان اسمه علي ما اذكر "لغة الجسد"، في كل رواية، فيلم، قصيدة، ومقال، جملة مخبأة لك أنت وحدك. إن لم تلتقتها في الوقت المناسب، ستظل تبحث عنها لسنوات، وجدت الفتاة الجملة وحملتها في حقيبتها خلال السنوات العشر الماضية، لا أعلم مصيرها الأن، لكني على يقين أنها لم تعود إلى ما كانت قبل مشاهدة هذا الفيلم.. "حرر جسمك، حرر عقلك"،كانت تلك هي الجملة.
لم اخبرك في بداية الرسالة إني لازالت غارقة بين صفحات الكتاب، لم انتهي منه بعد، أو بالاحرى لا أرغب في الانتهاء، اتلكأ كثيراً حتى لا أرى كلمة النهاية قبل أن انهي كل رسائلي إليك. اخبرك شيئاً جديد ، لماذا رفضت نشر تلك الرسائل ، لأن الجميع أغبياء وحمقي، أغبياء تماماً ووحيدون، يتجاهلون دائماً البحث عن القاتل ويتسألون "أين ذهبت جثة سيد نفيسة"، ربما عانيت أنت معهم من قبل، اخبرني هل تركوا الكتاب وقاموا بمحاصرتك بالأسئلة، لماذا لا تجيب سلمي على رسائلك؟ وأين هي؟ ولماذا افترقتوا؟ وما هي جنسيتها؟ هل طرحوا تلك الأسئلة الساذجة حقاً؟
عزيزي باسم.. سألت نفسي كثيراُ لماذا أطيل في خطابي هذا ولماذا لم استعيض عنه بمقال عن الكتاب يشرح أفكارك وأصل به إلى مبتغاك من النص وأضيف فيه بعض الجمل معقدة التركيب والمصطلحات الأدبية وغيرها من الأدوات التي تلمع برستيج الصحفي أو الناقد. صدقاً ليس لدي إجابة، قبل وقت طويل هجرت فيه الحياة، الآن على الأغلب احاول من خلال كتابك أن استعيد لياقتي في الكتابة والثرثرة معك في كل شيء وأي شيء دون قيود النشر.
عزيزي باسم
أمس زارتني سلمي في الحلم، كانت غاضبة جداً مني، ظلت تصرخ في وجهي وتتهمني بالتزوير، طلبت مني التوقف عن الكتابة إليك، فهمت شكواها ولم أبادلها العنف، قلت لها بصوت هاديء أن الوقت سرقني إلى الرسالة الثامنة. أعتذر منك لن استطيع التوقف.
بعد أن ايقظني صوت بائع الطماطم في الشارع وجدتني ممتلئة بكل تفاصيل الرسالة الثامنة، ولا اعلم لماذا أعطيتها هذا الرقم بالتحديد رغم أن هناك خمس رسائل تسبقها لم تكتب بعد ربما لأنه رقمي المفضل، بدأت في تدوين كثير من التفاصيل حتي أوشكت على إنهاء الرسالة وتوقفت، لم أكملها ، تركت بها بعض السطور ربما أعود إليها في وقت أخر.
عزيزي باسم.. تري ماذا كان سيفعل لوركا لو ظل حياً، بالطبع كان سيقدم على الانتحار، لن يتحمل أن يري امرأة تهدر انوثتها وتتعرى على مسمع من العالم وسط ميدان التحرير، سيشهد علينا أننا تحملنا اضعاف ما لم تتحمله يرما وميالا واديلا وانجوستياس. لم يكن يستطيع أن يمحو حزن مارينا ايضاً، تعلم أن هناك ما هو اشد من الموت، تروي مارينا نعمت أن الضابط الذي قام بتعذيبها في سجن ايفين طلب منها الزواج أو في الحقيقة اجبرها على ذلك، في كل ليلة يقضيها معها كانت تموت ألف مرة، كان يأخذها في الصباح إلى البيت الذي اعده لهما ويعيدها إلى الزنزانة في اليوم التالي، النساء يا عزيزي يموتون هنا اكثر من مرة.
دعني اعترف لك اني لم اعد اقوى في هذه اللحظة على مواصة الكتابة، دمرتني مرثيتك الأخيرة لوالدتك، يتساوي حزني بها بيوم وداع والدي، هذا اليوم الذي تغيرت فيه حياتي بعده للابد، لم اعود بعد هذا اليوم الابنة الوحيدة المدللة، لم اعد سوي امرأة عجوز في الخامسة عشر.
عزيزي باسم.. عزيزي المحب للحياة. الحياة امراة جميلة ورجل ناضج، تغرينا بكل ما فيها من فرح، تهبنا الأمل وتؤمن لنا الحلم، تحملنا على اكتفاها من اطعناها، وتلقي بنا من الشرفة إن عصيناها.. الحياة طفل مستبد، عليك أن تحمله مرة وتمسكه بيدك مرة وتتجاهل بكائه مرات، يا عزيزي لم تنتهي رواياتك بعد، لن تنتهي اسرارك قط، لا اعلم متي يسمح لي أن ارسل إليك خطاباً جديداً، لكن ما اتمناه حقاً أن تتحول كل هذه الوحدة بداخلك إلى الكتابة. المزيد من الكتابة، حتي يصبح عنوان كتابك الجديد ، "يا سلمي أنا الآن سعيد".
هذة الخطابات أرسلتها الي الكاتب باسم شرف بعد قراءة روايته "يا سلمي أنا الأن وحيد"
رانيا يوسف، صحفية مهتمة بمجال الفنون والثقافة