رئيس التحرير أحمد متولي
 محمود شاكر.. المحقق الفنان وفارس التراث العربي

محمود شاكر.. المحقق الفنان وفارس التراث العربي

بدأ معاركه مبكرا، خاض أول حروبه الأدبية في سن صغير معلنا نفسه كحارس يقظ للغة العربية ومدافعا عن تراثها قبل أن يكون كما أطلق عليه العقاد، المحقق الفنان محمود محمد شاكر.

في قاعة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وقف شاكر ليرفض كلام أستاذه المحاضر الدكتور طه حسين في نفي الشعر الجاهلي قبل أن يؤلف العميد كتابه المعروف، نقد الطالب رؤية أستاذه على استحياء دون أن يصرح باطلاعه على مقال للمستشرق الإنجليزي "مرجليوث" يتبنى نفس التوجهات.  

وهذا ما دفع الفتى تلميذُ الأديب الأزهري الشيخ سيد المرصفي، الذي كان أستاذًا لطه أيضا ودرّس له في الجامع الأزهر وأثر فيه إلى جعْل طه يكتب عنه في «الأيام» ما كتب، والذي قرأ عليه شاكر في بيته كتاب «الكامل» للمبرد، «وحماسة أبي تمام» وهو في المرحلة الثانوية قبل الالتحاق بالجامعة وصدمته بما سمع من آراء العميد والمستشرق، ما دفع الفتى للرفض قبل الدراسة والتدقيق، ما يراه بأن مرجليوث "ليس عنده من أدوات النظر في العربية، وإدراك أسرارها، ما يجعل لرأيه قيمة، وهذا أمر يرجع إلى الطبيعة، فليس اللسان لسانه، وليس الأدب أدبه، وليس التاريخ تاريخه".

يترك شاكر الجامعة في السنة الثانية حتى لا يسكت عما يراه حقا ولا يطيل المعركة في نفس الآن، ليعكف على الشعر العربي عشر سنوات، دراسة الحائر الشاك يلتمس بصيصا يهتدي به إلى مخرج، يقول عن هذه المرحلة في مقدمة كتابه المتنبي " يومئذ طويت كل نفسي على عزيمة حذاء ماضية: أن أبدأ وحيدا منفردا، رحلة طويلة جدا، وبعيدة جدا، وشاقة جدا، ومثيرة جدا. بدأت بإعادة قراءة الشعر العربي كله، أو ما وقع تحت يدي منه يومئذ على الأصح، قراءة متأنية طويلة الأناة عند كل لفظ ومعنى، كأني أقلبهما بعقلي، وأروزهما «أي: أزنهما مختبرا» بقلبي، وأجسهما جسا ببصري وببصيرتي.."

في السادسة والعشرين من عمره باقتراح من صاحب «المقتطف»، فؤاد صروف، يؤلف كتاب «المتنبي» الذي أثار جدلا كبيرا لا سيما مقدمته الموسومة بـ«لمحات من فساد حياتنا الأدبية»، وذهب في مؤلَفه إلى علوية المتنبي وأنه ليس ابنا لأحد السقائين بالكوفة كما قيل، بل كان علويا نشأ بالكوفة وتعلم مع الأشراف في مكاتب العلم، وأنه كان يحب خولة أخت سيف الدين الحمداني.

يرد طه على كتاب «المتنبي» لتستمر المعركة الكبرى في الحياة الأدبية المصرية، يصف شاكر النقد قائلا «ليس هناك من نَقد الكتاب كما ينبغي أن يُنقد، نقده الدكتور طه حسين في كتابه مع المتنبي نقدا لا أستطيع أن أعده نقدا في الحقيقة، لأنه لا أصل له».

وتتوالى المعارك عبر المقالات، لم يوقفه إلا وفاة أستاذه مصطفى صادق الرافعي، ليصرفه الحزن عن استكمال الردود على طه في صحيفة البلاغ، فقد كان شديد الصلة بنابغة الأدب العربي حتى أنه لم يتصل بالعقاد إلا بعد ذلك الرحيل لتتكون صداقة شديدة بالخصم الأكبر للرافعي.

وكان شاكر رافعيا أصيلا يقود الرافعيين في معركتهم مع العقاديين الذين تصدرهم سيد قطب آنذاك، رغم صحبة شاكر للعقاد والاحترام المتبادل بينهم بعد ذلك.

بعد سنوات يخوض أبو فهر معركة مع الدكتور لويس عوض بعد نشره مقالات في الأهرام يرى فيها أن أبا العلاء المعري كان متأثرا بالتراث اليوناني، ورأى شاكر في مقالاته أن عوض يُلمح بوجود أثر للأساطير اليونانية في الحديث النبوي، ليكمل معركته عبر المقالات، والتي تطورت للتصدي لما سماه غزوا فكريا غربيا حتى تأليف كتابه «أباطيل وأسمار».

يبقى محمود محمد شاكر، أديبا شاعرا ومحققا لغويا، أثار الجدل واختلف الناس حوله وتعددت آراؤهم فيه، يصفه تلميذه الشاعر الدرعمي الدكتور أبو همام عبداللطيف عبدالحليم بـ«العُقاب»، ويؤكد أن ملكة الشعر لديه تفوق كل ملكاته رغم عدم نشره لكثير من قصائده التي كتبها. 

يقول الدكتور زكي نجيب محمود عن قصيدته «القوس والعذراء»: «درة ساطعة هذه بين سائر الدرر، وآية هذه من الفن محكمة بين آيات الفن المحكمات، وقعت عليها وأنا أدور بالبصر العجلان في سوق الكتب الحديثة الصدور، فكنت كمن كان ينبش في أديم الأرض بين المدر والحصى، ثم لاحت له بغتة لتخطف منه البصر ببريقها، لؤلؤة هو كتاب القوس العذراء من ست وسبعين صفحة صغيرة، رقمت أسطرها صفحة صفحة، كما ترقم حبات الجوهر الحر يضعها الخازن في صندوق الذخائر، لكي لاتفلت منها عن الرائي جوهرة، ولو قد كانت لي الكلمة عند طبع الكتاب، لأمرت بترقيم محتواه لفظة لفظة؛ لأن كل لفظة من كل سطر لؤلؤة».   

حقق أبو فهر، كثيرا من كتب التراث فكان ذا بصمة وأثر في التحقيق، ولتلميذه شيخ البلاغيين الدكتور محمد محمد أبو موسى وقفات حول مقدماته لكتابي «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لمؤسس علم البلاغة عبدالقاهر الجرجاني.

رحل الأستاذ محمود شاكر على آرائه التي لم تتبدل، تلك التي عبر عنها الدكتور أبو موسى في مجلة «الأدب الإسلامي» قائلا "من المحال أن تجد هذه الأمة سبيلا إلى النهوض إلا بأن تنهض علومها التي هي عقلها وقلبها وذات نفسها، النهضة تبدأ من نقطة واحدة وهي نهضة العلوم التي تمثل الثقافة العربية الإسلامية المتكاملة، وأي محاولة تتجاوز هذه النقطة هي محاولة باطلة». 

عبد السلام صلاح

عبد السلام صلاح

صحفي مصري مهتم بالكتابة في الموضوعات الثقافية والتاريخية